2016-03-15 

الصدر.. لماذا لم يتحول إلى رمز للبطولة

ماجد السامرائي

العرب - لعل العراقيين أكثر من غيرهم من العرب تعلقا برمز البطولة الفردية، وموروثهم الشعبي يستعيد نفسه بين مرحلة وأخرى من التاريخ خاصة في فترات الهزيمة والانكسار، فاستحضار البطل ليس دائما لاستنهاض النفوس الباحثة عن الخلاص، وإنما لمداواة الألم بالحزن. حاول صدام حسين تشكيل رمزية للبطل المنقذ لكنه مارس الاستبداد وفقد الميزان ما بين مصالح الناس ومصلحة زعامته، كانت الملايين تخرج في الشوارع تمجده وتتغنى باسمه، فتوهّم أنه أصبح البطل المنقذ للأمة، بل إن أكثر شعراء الأغنية ومغنييها هم من مدن وقرى جنوب العراق، والأمثلة لا تحصى. فالشاعر الذي رحل قبل أيام زهير الدجيلي كتب أغنية “العزيز انته” التي غناها حسين نعمة ابن الناصرية، والملحن الخالد طالب القرغولي الذي لحّن أغنية ياس خضر “اشكد انته رائع سيدي”، وهناك الآلاف من الأمثلة في الشعر والأغنية لمبدعين كلهم من أبناء الفرات الأوسط والجنوب حين لم تكن هناك فروق طائفية.

 

في اليوم التالي لسقوط العراق بيد الأميركان خرج للشارع من يشتمون صدام باحثين عن رمز بطولة جديد، فذهب معظمهم إلى المرجعية الشيعية كرمز يستحضر البطل الغائب، لكن استحضاره تمزق بين عمائم سوداء وبيضاء كثيرة وبينهم “أفندية” استلموا الحكم فارتدوا أغلى الماركات العالمية وحين يكونون في حضرة ولي الفقيه بطهران يضطرون إلى نزع “الكرافيتة”.

 

استبشرت “المرجعية” بهذا الدور لأنه أخرجها من دور فتاوى الوضوء والصلاة وزواج المتعة، إلى دور سياسي يحدد مصير العراق ونظامه السياسي، فحدثت قصة منح الغطاء للأحزاب الشيعية الوافدة من الخارج، وحصل ما حصل من نكبة سياسية اقترنت بفشل تلك الأحزاب وغرقها بالفساد والاستبداد، وابتعادها عن خدمة الجمهور مما أحرج “المرجعية” واضطرها لغلق أبوابها أمام من يتربع على كرسي السلطة أكثر من مرة. لكن جميع هذه الأحزاب والكتل النيابية الشيعية ما زالت تتشبث بعباءة النجف السوداء، ولم تتمكن من بناء ولاء شعبي وطني عراقي يرتبط بإنجاز يعينها على الاستمرار، فأبناء المحافظات الجنوبية الذين يعانون الحرمان والمظاهرات التي تفجّرت منذ العام الماضي يبقون دليلا على ذلك، والعراقيون اليوم لا دولة حقيقية لهم ونظامهم السياسي مفكك. وهو فساد لم يحصل شبيه له في التاريخ، لا صحة ولا كهرباء، وفوضى وغياب للأمن، ورشوة في كل مفصل من مفاصل الحكومة المقبلة على الإفلاس. حكام لا يقبلون السؤال عن ماضيهم أو حاضر ثرواتهم، لأنهم قدموا من بيئات متواضعة.

 

والبطل الرمز “المهزوم” الذي ضحى من أجل المبادئ السامية ما يزال يتحرك في مخيال العمل السياسي بالعراق، البطل الرمز لا يُسأل عن برامجه من عامة الناس، وحدهم أولئك المستلهمون للغيب يعرفون طريق الإنقاذ، أما عامة الناس فعليهم الاستجابة لدعوات المُلهم، من حقهم أن يدونوا الأسئلة إليه فقط وينتظرون إجابته بالفتوى السياسية.

 

بيئة البحث عن البطل الرمز ما زالت تلعب دورها للخروج من النكبة الحالية في العراق، من هنا وجد مقتدى الصدر أنه قادر على لعب هذا الدور بسبب عدم وجود البطل الوطني والرمز الملهم، وظل الصدر منذ العام 2003 يحتفظ لنفسه بمسافة بينه وبين سلطة الحكم، وبينه وبين الأميركان “المحتلين”، وكان جيش المهدي أداته العسكرية التي استخدمها، لكن الاستخدام الخطير كان ضد العرب السنة، وقد اعترف الصدر في وقت متأخر بوجود عناصر مجرمة وفاسدة في هذا الجيش، ودائما ما يعلن براءته من كل عنصر يتورط في قتل عراقي، لكن هذه البراءة تخالفها عمليات جيش المهدي في الإبادة والتهجير القسري التي حدثت بعد تفجير مرقد الإماميْن العسكريين في سامراء وما تلاها من حملة دموية تجاه العرب السنة. ثم شن نوري المالكي، لأسباب تتعلق بزعامته، ما سميّ بصولة الفرسان عام 2008 في مدن النجف والبصرة والناصرية للقضاء على جيش المهدي مما اضطر الصدر لتجميده. وقد فرّخ هذا التنظيم معظم الميليشيات وفي مقدمتها “عصائب أهل الحق” التي استخدمها المالكي في معركته السياسية.

 

موروث مقتدى الصدر من الراحل والده منحه هذه الفرصة التاريخية في أن يكون إلى جانب المظلومين بين الشيعة، وأن يتحول إلى بطل لكل العراقيين لو أنه تجاوز الخطاب التعبوي المذهبي إلى برنامج سياسي وطني متفاعل مع الأحداث بعيدا عن العاطفة، لكنه لم يتمكن من ذلك لكونه رجل دين. وتبقى قضية ولائه لإيران ملتبسة مع أن مرجعه المذهبي هو كاظم الحائري في قم. الصدر لا يبدو أنه يريد لعب دور خميني إيران في قيادة ثورة شعبية بوجه ظلم السلطة لأسباب كثيرة، كما أنه لا يريد أن يلعب دور حسن نصرالله في العراق، فذاك أعلن عن نفسه جنديا لولي الفقيه في طهران. الصدر يعتقد نفسه ممثلا لخط والده العروبي المستقل. لكنه سياسيا غير محبوب من أقرانه، أمثال عمار الحكيم والمالكي والجعفري وهادي العامري، لأنه يحرجهم في المواقف وسلاحه بوجههم هو الشارع، وهو قادر على إخراج عشرات الآلاف، وعلى تهديد رمز السلطة، المنطقة الخضراء، مثلما فعل قبل أسبوعين على وقع دعوة التغيير الوزاري للعبادي. مما اضطر التحالف لعقد اجتماع كربلاء في السادس من هذا الشهر الذي فشل في الوصول إلى حل توافقي بين المتصارعين الذين يحاولون عبور مرحلة كشف الأخطاء. فهناك طهران الضابطة لإيقاع جميع الأطراف ومن بينهم مقتدى الصدر، وهناك واشنطن المعروف دعمها للحكومة مهما اقترفت من ذنوب لحين سقوطها.

 

مقتدى الصدر لم يتمكن من تغيير مسار العملية السياسية في بطشها الطائفي إلى أفقها الوطني. وكان قادرا على ذلك لو تصرف بمهارة سياسية يفتقدها، كما أن مشكلته في كوادره التي قدمها للمسرح السياسي، فهم غير سياسيين وأغلبهم غرق في بحر من الفساد. والأطراف الشيعية الأخرى لا تخشاه ولا تتردد في انتقاده والتهكم عليه مثلما فعل نوري المالكي بوصف مظاهرات الصدر الأخيرة بالمهزلة، أما حيدر العبادي فموقفه صعب ولن يتمكن من الخروج من مأزقه داخل بيته الشيعي، حيث طالبه الحكيم والصدر بأن يخرج من حزب الدعوة لكنه لم يتمكن من اتخاذ هذا القرار مع أن ذلك هو رأي العراقيين من الشيعة والسنة.

 

الصدر في دوره الذي يحلم به “كمنقذ بطل” عليه استحقاقات كثيرة لا تقدمها المواقف ذات الإيقاع العاطفي الشعبوي، لأن السياسة فيها معايير لا بد أن تقترن بالأفعال “الثورية” وألا يكتفي بالتلويح بالتغيير الميداني، وسرعان ما يستجيب للضغوط الكثيرة ويتراجع مثلما استجاب الآن وتراجع عن اقتحام المنطقة الخضراء، وتهديده المباشر للسفارتيْن الأميركية والبريطانية، ونقل التظاهرة إلى ساحة التحرير، تحت ذريعة الوعود التي اتسم بها العبادي منذ تسلّمه رئاسة الوزارة.

 

فدور “البطل الرمز” هو الذي يقطع جميع الجسور مع المفسدين والفاشلين المعزولين عن الشعب. وأن يكون خطابه لكل العراقيين. أما إذا لم يتمكن من تحقيق ذلك، فسيظل كرجل دين يتسم بالنقاء والثورية ويحصل على احترام الناس دون أن يكون منقذهم من النكبة الحالية.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه