2020-03-24 

موانع طبيعية تحجب الحقيقة (الأبعاد الطبيعية لتلقائية تَوَهُّم المعرفة)

إبراهيم البليهي

لابد أن نَستحضِر دائمًا في أذهاننا؛ تلقائية تَوَهُّم المعرفة، وأن نَتَعَرَّف على سلسلة الأوهام الملازٍمة للإنسان أينما كان. إن إدراكَ كيفية التكَوُّن التلقائي للبنية الذهنية والوجدانية القاعدية لأي فرد، وإدراكَ التلبُّس التلقائي بالأوهام، والوعي بالانخداع التلقائيالكثيف الذي يغلف التفكير؛ إن كل ذلك هو البداية الحقيقية لمسارٍمستمرٍّ للتحرر من الوعي الزائف، ومن تَوَهُّم المعرفة؛ إن إدراك ذلك كله؛ يُمثِّل نقلةً نوعيةً في تفكير أي إنسان. إن الاستمرارية التلقائية لهيمنة الأنساق الثقافية على العقل البشري؛ تؤكد أن هذه الأنساق في منأى عن تأثير الأفكار الفلسفية، وعن تأثير العلوم الموضوعية؛ لقد بقيتْ أوهامُ البشر صامدةً بمنتهى الصلابة؛ أمام حقائق العلم؛ حتى في هذا العصر؛ اقتصر التغيير على عقْلنة العمل، وعقلنة الإنتاج، وعقْلنة التنظيم، وعقْلنة القانون، وعقلنة المؤسسات. فلابد أن يُدرِك كلُّ فردٍ بأنه يبقى مرتهَنًا بما ينضاف إليه تلقائيًّا في طفولته المبكرة، ثم ما يُضاف قصْدًا بعد بزوغ وعيه؛ فهو يولد من دون ماهية؛ من غير تَحَدُّدٍ لطبيعته؛ فيتحدَّد اتجاهُه ومسارُه في السنوات الأولى من طفولته. ويَستمر هذا التطبُّع؛يتعزَّز ويتأكَّد ويترسَّخ فتكتمل به بنيةٌ ذهنية قاعدية؛ لينساب تلقائيًّا خلال عمره كله. إن الإنسان يتحدَّد بما ينضاف إليه، وليس بما يولد به ...

 

إن كل فرد لا يَعرف العالم إلا بواسطة ما تَطَبَّع به؛ فهو يُنمِّي معرفته، ويكتسب كفاياته؛ بواسطة بنتيه الذهنية القاعدية. ومثلما يُبَيِّن العالم ديديه أنزيو في كتابه (الجماعة واللاوعي): بأن لكل جماعة جهازٌ نفسيٌّ جماعيٌّ يُشَكِّل غلافًا عامًّا ويؤكد: ((إن الجماعة غلافٌ يَضبِط الأفرادَ معًا؛ ويكون الغلافُ الجماعي نَسَقًا من القوانين)) ويضيف: ((ذاتُ الجماعة هي الحاوي الذي يَنْشَط في داخله دَوَرَانٌ استلهاميٌّ وتماثُليٌّ بين الأشخاص)) ويضيف: ((تَنتُج كلُّ جماعةٍ بشرية عن موقعٍ ذاتيٍّ يُسْقِطه عليها الأفرادُ الذين يؤلفونها)) ويوضح أن كل: ((جماعة تَجِد غلافها النفسي في أنا مشتركة؛ وهذه هي ظاهرة الوهم الجماعي)) ويوضح عالم النفس كارل غوستاف يونغ أن الإنسان يتحكَّم به اللاشعور الجمعي، واللاشعور الشخصي وأن دوافع داخلية: ((تَنبع من منهلٍ عميقٍ لم يُكَوِّنه الوعي، وليس تحت سيطرته؛ فالأمر الوحيد الذي نرفض الإقرار به؛ هو أننا نَعْتَمِد على قُوًى خارجَ سيطرتنا)) كما يؤكد يونغ أن عقل الإنسان: ((متحفٌ كُلِّيٌّ؛ يحال إلى ماضٍ طويل عبر اللغة والتقاليد والثقافة)) ولكن أوهامًا متراكمة عن الإنسان، وعن العقل حَجَبَتْ هذه الحقيقة الأساسية فبقيتْ غيرَ مدرَكة خارجَ دوائر العلم الضيقة المختصة؛ ومن هنا يسيطر الوهمُ؛ فكل فردٍ في أي مجتمعٍ؛ يتوهَّم بأنه قد بَنى تصوراته بإرادةٍ ووعيٍ وتعقُّل حيث تُوهِمه أنماطه الذهنية بذلك؛ ويبقى واهمًا بتفرُّده ويَجهل أنه صياغةٌ اجتماعية وأنه ذائبٌ في تيار جماعي، وأنه لو أُخِذ بعد ولادته وسُلِّم لأسرة من نسقٍ ثقافي مغاير؛ لتَطَبَّع بالنسق الذي ينشأ عليه، ولا تأثير لانتمائه العرقي؛ فالإنسان كائنٌ ثقافي بالدرجة الأولى. إن الأنساق الثقافية هي مَصْدَر الاختلافات بين الأمم ... 

 إن كل فردٍ يكون مندمجًا وذائبًا في تيارٍ جماعي، وفي نفس الوقت تَعزله ذاته الفردية عن فَهْمِ الأفرادِ الآخرين فَهْمًا مطابقًا لحقيقتهم، حتى داخل جماعته؛ إن موانع الفهم مزدوجة؛ يقول يونغ في كتابه (سيكولوجية العقل الباطن): ((إن الأفكار التي نتعامل معها في يقظتنا ذات الحياة المنظمة ظاهريًّا؛ ليست بالدقة والإحكام اللذين يَحْلو لنا أن نعتقد. بل بالعكس يصبح معناها أقل دقة وإحكامًا كلما أمعنا في فحصها أكثر)) ومثلما يؤكد الفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير في كتابه (الحقيقة والمنهج): ((إن الذاتية التي هي مَقَرُّنا؛ عبارة عن مرآةٍ مشَوَّهة. وتفكير الفرد حول ذاته داخل حلقةٍ مغلقة)) كما يؤكد أنه: ((من الضروري الإقرار بحقيقة وجود أحكامٍ مسبقة)) إن الإنسان تَحجب عنه أنماطُه الذهنية حقيقةَ أنه يَحْكُم على كل شيء، ليس برؤيةٍ موضوعية؛ وإنما بواسطة أنماطٍ ذهنيةٍ ووجدانيةٍ مسبقة؛ فالفرد في مجمل حياته التلقائية لا يملك رؤيةً موضوعيةً منفصلةً عن أحكامه المسبقة؛ إن الاحكام الموضوعية مشروطةٌ بوجود مرتكَزٍ خارجِ الذات؛ ومثلما قال ديكارت: ((يحق لي أنا أن أرتجي الكثير لو قُدِّر لي أن أجِدَ القليلَ مما هو أكيد ولا يتزعزع)) إن كل فرد تَختلف أنماطه الذهنية والوجدانية عن كل الآخرين؛ لذلك فإن سوءَ الفهمِ الذي يحصل بين الناس هو شيءٌ طبيعي؛ وعلينا أن نتوقعه دائمًا، وأن نتعامل معه بواقعية؛ فإذا أدرك الناسُ ذلك فسوف يتفهَّمون أسباب الاختلافات؛ فيصيرون أقدر على حُسن التعامل، ويَبذلون جهدًا أعمق من أجل التواصل الموضوعي وتقليل سوء الفهم بقدر ما تسمح به الطبيعة البشرية. 

لكل أمة تصوراتٌ وقيمٌ واهتماماتٌ ومسارات؛ ينتظمها نَسَقٌ ثقافي جامع؛ تَشَكَّل بواسطة تاريخها، المختلف عن تاريخ الآخرين. إن كل أمة هي نتاجُ تاريخها، وليست المنتجة له. إن الناس من أية أمة يتطبعون تلقائيًا بأنساق عامة. تختلف عن الأنساق التي تتطبع بها تلقائيًّا أجيالُ الأمم الأخرى؛ إنها مسلَّمات تلقائية الفاعلية. إنها تُكَوِّن البداهات والمسلَّمات وتستمر هذه البداهات رغم تبايناتها من أمة إلى أخرى؛ تتحكَّم بعقول الكل. لذلك كان تأسيس ديكارت للفلسفة الحديثة قطيعةً مع التاريخ وتَوَقُّفًا عن تلقائية الاستمرار؛ من أجل أن يستأنف العقل المسيرةَ دون أحكامٍ مسبقة.لكن ما يتوصل إليه الأفراد الاستثنائيون، من أمثال ديكارت لا يصير جزءًا من أي نسق ثقافي، وإنما ينحصر في أقلية نخبوية؛فيساعد على التقدم العام دون أن يستوعبه عموم الناس. إن المعضلة التي تتحكم بالكل هي؛ مثلما يُنَبِّه الفيلسوف فريدريك شليجل حيث يؤكد: ((مُسَلَّمة الاعتياد وبديهية الألفة)) إن الأصل في أكثر البشر؛ أنهم يبقون محكومين بحلقاتِ واستحكاماتِ التطبُّع. إنها حلقاتٌ في منتهى الصلابة والصمود والاستحكام؛ تُكَوِّن عقلَكل إنسان وتُخالطه وتَغمره؛ وتتحكَّم بتفكيره ورغباته وميوله وولاءاته وانتمائه ورُآه؛ وتُبقيه لا يَعرِف ذاته معرفةً فاحصة، ولا يَعرِف الآخرين إلا بواسطة ما تَطَبَّع به تلقائيًّا؛ فالعقل هو محتواه، وهذا المحتوى هو مرجعية الفرد. إنه يَجهل جهلَه، ويَجهل تراكُم الجهل المركَّب والأوهام التلقائية والأغلال التي تُكَبِّله. وهذا عام لكل البشر في كل زمان وكل مكان ... 

إنه لكي ينعتق الفرد من غيبوبة التطبُّع التلقائي، ويُفَكِّر بوعيٍ موضوعي حقيقي، وباستقلالٍ فرديٍّ؛ لابد أن يولد ولادةً فكرية جديدة؛ يَنفصل بها عن بداهة التطبُّع التلقائي، ويَخترق الحواجزالعازلة فيبلغ بداهةَ اليقظة، والوعيَ الاستثنائي المتقد. ولكن هذا الانفصال الفكري؛ لا يحصل إلا في حالاتٍ فردية استثنائية؛ كحالة سقراط وديكارت ولوك وهيوم وكانط. لذلك فإنه لابد أن ننتبه جميعًا إلى؛ أن معضلةَ كلِّ فردٍ من الناس؛ أنه محكومٌ أوَّلا بالنسَق الثقافي الذي تَكَيَّف معه، واعتاد عليه، وتَطَبَّع به، تلقائيًّا في طفولته. ثم تَعَزَّز وتَرسَّخ في كِبَره. ومحكومٌ ثانيًّا؛ باعتقاده التلقائي الحتميالوَهْمي؛ أنه هو ذاته قد اختار بعقلٍ واعٍ، وإرادةٍ خالصةٍ، وبصيرةنافذةٍ؛ محتوى خافيته، وأنماط ذهنه، ومنظومة تصوُّراته، ومنهجتفكيره، والاتجاه والمسار الذي تحدَّدَتْ به حياته. ومحكومٌ ثالثًاباختلاف أنماطه الذهنية والوجدانية وتصوراته؛ عن أنماطِوتصورات أيِّ فردٍ آخر غيره. حتى داخل النسق الثقافي الذي ينتمي إليه. فلا يتماثَل فرداد أبدًا بل لا يكاد أحَدٌ يَفْهَمُ أحَدًا دون شوائب؛ولكنه في الغالب يجهل ذلك. ومحكومٌ رابعًا بتلقائية تَوَهُّم المعرفة،وبأحكامه المسبقة؛ وهو تَوَهُّمٌ عامُّ وشامل يلازِمه طول حياته؛ فيبقى كلُّ فردٍ تُوهِمُه أنماطُه الذهنيةُ دائمًا أنه يَعْرِف. ولا يَنتبِه الشخصُلاستحكام أيٍّ من هذه الحلقات المهيمنة عليه تلقائيًّا؛ إلا إذا ارتَطَم بما يوقظه، ويَدفعه قسرًا للتحقُّق ...  

لكل ذلك فإن هذه الحلقات المستحكمة؛ هي أول ما يجب أن يَعْرِفه كلُّ فردٍ عن نفسه. وعن كل فردٍ آخر. لا يَختلف في ذلك المتعلمون عن غير المتعلمين. لأن ما تتلقاه الأجيال في التعليم إما أن يُعزِّز ما تم التَّطَبُّع به من قَبْل، أو يكون محايدًا فيُكَوِّن بهاالدماغ أنماطًا ذهنيةً منفصلةً عن أنماط البنية الذهنية القاعدية. أما ما يتعارض مع البنية الذهنية القاعدية فإن الدماغ البشري يملك آلية تلقائية لرفْضه واستبعاده وحذفه لتقليل أعباء الدماغ؛ طبقًا لقانون الاقتصاد في الجهد. إن هذا التحديد المسبق للأنماط الذهنية والوجدانية؛ يُمثِّل معضلةً بشرية عامة؛ لا يكاد ينجو من نتائجهاأحدٌ حتى مع الحيطة والدقة. إن التحقُّق عمليةٌ في غاية الأهمية، كما أنها في غاية التعقيد؛ بينما أن طبيعة الإنسان، وتَلَبُّسه التلقائي الحتمي بهذه الحلقات التي تحجب عنه الحقيقة؛ تَجعله يثق ثقةً عمياء بأحكامه وتصوراته. إن الناس لو أدركوا هذه الحقيقة البشرية العميقة العامة عن أنفسهم، وعن كل البشر؛ لتَغَيَّر كل شيء، في الحياة البشرية؛ باتجاه الأسمح، والأرقى، والأنقى، والأكرم،والأليق بالإنسان ... 

  إن المعضلة البشرية العامة والعميقة؛ ليست فيما يَجهله الناسُ، بل فيما يتوَهَّمون أنهم يعرفونه تمام المعرفة، ويوقنون بأنه الحق؛ ولا يضعونه موضع التحليل والفحص والتحقُّق. إنهم يرون التناقض الحاد بين تقاليد الأمم. لكن كل أمة تَعتبر أنها هي وحدها على النهج الصحيح وأن كل المغايرين يسيرون في الاتجاه الخاطئ. وكذلك على المستويات الفردية داخل كل نسقٍ ثقافي؛ إن كل فرد تُوهِمه أنماطه الذهنية أنه هو الذي يملك الصواب. لذلك فإن المعضلة ليست فيما يُفَكِّر فيه الإنسانُ، ويواجه إشكالاته، ويبحث لها عن حلول. بل المعضلة في اللامُفَكَّر فيه؛ في الركام الذي يكتظ به اللاوعي؛ فيَنساب تفكيرًا وأحكامًا وسلوكًا بشكل تلقائي دون أن يَخضَع للتحليل والفحص والغربلة والتحقُّق؛ وهو ليس خاصًّا بمسائل بسيطة، بل تنساب منه رؤيةُ الناس لأنفسهم وللعالم، بناسِه وبأشيائِه وبكلِّ ما فيه من ظاهرٍ أو خفي. وهي حقيقةٌ بشريةٌ يكاد يتفق عليها الفلاسفةُ والعلماءُ من مختلف الاتجاهات؛ فعلى الرغم من أن العالم المفكر الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي تصدَّى للاتجاه السلوكي دفاعًا عن العقل الإنساني فإنه رغم ذلك يؤكد: ((إن ماهيتنا الجوهرية تتحدَّد بالتأكيد بواسطة البيئة والمحيط)) كما يؤكد أن ما ينجلي من قدرات طبيعتنا: ((يَعتمِد على الشروط البيئية)) ويقول: ((طبيعتنا الجوهرية ربما تكون ذات نزوعٍ تدميري وشريرة)) لكنه يتدارك مشيرًا: ((بأن طبيعتنا تصبو نحو الكمال)) غير أنه أيضا يتدارك فيقول: ((جزءٌ من طبيعتنا تَدْميري، بل هو مُدَمِّرٌ لذاته)) ويضيف: ((أعتقد بأن ذلك كله حقائق بدهية)) إن ما يؤكده تشومسكي وغيره؛ لا ينتبه له أكثر الناس؛ لذلك يثقون بآرائهم ومواقفهم دون فحص أو تحقق. إن معضلة الإنسان من داخله؛ إنها من طبيعته، ومن الحلقات المستحكمة التي تحجب عنه الحقيقة ...    

ورغم أن تاريخ الأمم وحاضرها؛ كلاهما يؤكِّد الحتمية النسقية، كما يؤكد أن تعميم التعليم يُرَسِّخ الأنساقَ؛ لكن الناس يتوهمون بأن التعليم يُصحِّح ويُلغي ما قَبْله وأنه بات هو مرجعية المتعلمين من كل الأمم؛ فقد جرى الخلط بين المرجعية المهنية، والمرجعية القِيَمية = النسقية. فالإطار النَّسَقي يَحكُم ولا يُحكَم. يُبَيِّن الدكتور ديفيد هاوكينز في كتابه (القوة مقابل الإكراه): ((العوامل الخفية للسلوك البشري)) ثم يؤكد: ((لا تَكْمُن المشكلةُ الحقيقية في عَوَزِنا للمعلومات والمعطيات، فنحن غارقون بها، بل تكمن العقبةُ في الوسيلة المناسبة لتفسير دلالات تلك المعطيات)) ويؤكد: ((مأزقُ البشرية الدائم؛ يَكمن بكونه يُسيء تعريف أفكاره ومعتقداته)) ويضيف: ((إن الفهم لا يَتبع تحليل البيانات، بل معالجتها وتحليلها بصيغةٍ ملائمة؛ فالمعطيات ستكون عديمة القيمة، مالم نَعرف ما الذي تعنيه)) ويقول: ((فخطأ بسيطٌ في تشكيل السؤال الصحيح؛ سيوصل لأخطاء فادحة في الأجوبة التي تليه)) ويضيف: ((فالأخطاء القاتلة تصيب طُرُق تفكيرنا)) ويؤكد: ((إن إنجازات البشرية؛ قد تمت -شكل شبه أعمى)) ويقول: ((إن إحصاءات عالمية أشارت لمستويات مرتفعة من التعاسة تملأ أصقاع الأرض، حتى في أكثر بلدان العالم تقدُّمًا)) وينبِّه إلى حقيقة: ((أن قراراتنا في أكثر الأحيان؛ هي نتاج رغبة في التلاؤم، أو بناءً على حساباتٍ خاطئة أو عاطفية أو سياسية أو مدفوعة بسبب الإعلام أو الانحيازات والميول الشخصية)) ويضيف: ((ميزتا الإنسان الرئيسيتان هما العقل والعاطفة؛ لكنهما معًا غير جديرتين بالثقة)) ويقول: ((فالعقل محدودٌ ولا يَحمِل القدرة على تمييز الجوهر أو النقطة الحرجة للمسائل المعقدة، وعادةً يُهمل السياق)) وحتى إذا تجاوزنا عموم الناس فإنه حتى على مستوى النخبة القليلة المهمومة بالتحقق؛ فإن العقل كما يؤكد الدكتور هاوكينز: ((لا يوصل إلى الحقيقة)) إن التحقق ليس بالبساطة التي يعتقدها الناس بل إن العقل حتى عند النخبة كما يقول: (( يَعُجُّ بمعلومات ومعارف هائلة لكنه يفتقد القدرة على الوصول بكل تلك التعقيدات إلى حل كامل؛ فكل طرحٍ  فلسفي يبدو منطقيًّا ومقنعًا بحد ذاته)) ويوضح أن نجاعة الأفكار والعلوم في المجالات العملية والتقنية؛ لا تدل على وضوح الرؤية العامة بشأن القضايا الكلية. فيقول: ((على الرغم من كون تأثير هذا المستوى وفعاليته كبيرين في العالم التقني؛ حيث تهيمن منهجيات المنطق، إلا أن المفارقة أنه بحد ذاته؛ يُعَدُّ عقبةً ضخمة للوصول إلى المستويات العليا)) ويوضح أن الإدراك الكُلِّي حالة فردية استثنائية: ((القوة طبيعةٌ ساميةٌ عليا ومطلقةٌ. الغايات تحتاج إلى نُضْجٍ ورُشْدٍ عظيمين، وانضباط وصبر. القادة العظماء يُلهموننا لنحظى بإيمانٍ وثقةٍ ولنرتص بمبادئ رفيعة وخيِّرة)) إن الإنسانية حققت تقدُّمًا هائلا في مجالات عقلنة العمل، وعقلنة التنظيم، وعقلنة الإنتاج، وعقلنة المؤسسات. يقول عالم النفس كارل غوستاف يونغ في كتابه (سيكولوجيا العقل الباطن): ((الإنسان المعاصر أعمى تجاه الحقيقة؛ إنه رغم كل عقلانيته وكفايته؛ تتملكه قُوًى خارج نطاق سيطرته)) فكل فرد يمكن أن يؤدي عمله التخصصي بمنتهى المهارة والكفاية دون أن تتغير بنيته الذهنية والوجدانية القاعدية وأن تبقى حماقاته وانحيازه وتعصبه وولاءاته وقيمه واهتماماته التلقائية دون تغيير. إن الأنساق الثقافية ذات طبيعة معيارية قِيَمِيَّة غير معرفية؛ فلا تتأثر بالفلسفة ولا بالعلوم الموضوعية ...             

إن الأنساق الثقافية، وكذلك مناهج التعليم؛ تتبع المسار الخطي؛ فهي تضيف الجديد فتتكَوَّن بها أنماط منفصلة عن الأنماط الذهنية القاعدية، إنها تُعطي معرفة في مجالها لكنها لا تُغَيِّر الأسبق ولا تؤثر فيه. إن كل معرفة خطية لا تصنع عقلاً معرفيًّا نقديًّا. تُنبِّه الدكتورة فون فرانز في الفصل الذي كتبته ضمن كتاب (الإنسان ورموزه) إلى: ((أن للنماذج الأصلية تأثيرًا شديدًا في الفرد؛ لأنها تُشَكِّل عواطفه وتصوغ نظرته الأخلاقية والفكرية، كما تؤثر في علاقاته مع الآخرين؛ ونتيجة لذلك تؤثر في مصيره كله)) وتؤكد: ((أن ترتيب رموز النماذج الأصلية يسير وفق نمطٍ كُلٍّيٍّ لدى الفرد)) كما تؤكد: ((أن النماذج الأصلية تعمل في ذهننا كقوةٍ خلاقة أو مدمِّرة: خلاقة حين تُلهِم أفكارًا جديدة، ومدمِّرة حين تتصلَّب تلك الأفكار وتتقولب ضمن أُطُرٍ من التعصب الأعمى)) ويقول الفيلسوف ديفيد هارتمان: ((الإطار الأحادي الجامد؛ لا يَصْنع فكرًا ناقدًا؛ فحيث توجد هناك حقيقةٌ واحدة واضحة؛ فلا شيء يمكن أن تتحداه)) ليس هذا فقط بل إن الإنسان كائنٌ خرافي ومثلما تقول الدكتورة سامية الساعاتي في كتابها (السحر والمجتمع): ((يكشف علم الأساطير عن أن كثيرًا من الخرافات القديمة؛ لا تزال حية في حياة الناس في أرقى المجتمعات الإنسانية)) وتقول: ((فالخرافة اعتقادٌ خاطئ له استمرار؛ اعتقادٌ اجتماعي يشترك فيه أفرادُ مجتمعٍ ما)) وقد تكَوَّنَتْ هذه الخرافات خلال أزمانٍ سحيقة حين: ((كان الإنسان يعيش في رعبٍ دائم)) وظلت ملازمة له. وفي كتابٍ عن (الخرافة) للدكتور إبراهيم بدران والدكتورة سلوى الخماش: ((إن الذهنية الخرافية هي تلك الذهنية التي تسيطر على الفرد أو الجماعة بحيث يكون للخرافة مكان بارز في نقل المعلومات أو تمثيلها، وفي تفسير الأحداث أو تعليلها)) لذلك فإنه ليس المهم ركام المعلومات، ولا اكتساب مهارات القول، أو كفايات الأداء العملي. وإنما المحور الذي يجب أن يتم التركيز عليه هو النظام المعرفي الذي به يفكر الدارسون؛ لأن لكل أمة نظامًا معرفيًّا تَكَوَّن تلقائيًّا خلال مراحل التاريخ؛ مغايرًا لكل النظم المعرفية التي تتوارثها الأمم الأخرى؛ ومضادًّا للعلوم الموضوعية. إن الدارسين يتلقون بهذا النظام المعرفي الخاص؛ كل ما يقدمه التعليم؛ لذلك يَلْتقِي الدارسون من مختلف الثقافات في جامعات أمريكية أو فرنسية أو ألمانية أو بريطانية فيتأهلون لمختلف الأعمال التخصصية. لكن بنياتهم الذهنية والوجدانية ومنظومة القيم، والنظام الفكري الذي تتحدد به رؤاهم؛ تظل مختلفة باختلاف النظم المعرفية التي ينتمون إليها ...    

من هنا الأهمية الكبرى لتأسيس علم الجهل؛ من أجل تحرير العقل البشري مما ظل يتحكم به، وهو عملٌ يتطلب جهودًا عالمية متضافرة وكثيفة ومنظَّمة ومتسقة. إنه بسبب هيمنة تلك الحلقات الأربع المستحكمة على كل فرد بشكلٍ تلقائي حتمي؛ فإنه رغم كل ما حققته العلوم من تمكينٍ للإنسانية؛ عن طريق اختراع الوسائل، وتنمية القدرات العملية إلى المدى الأقصى؛ رغم كل ذلك فإن هذه القدرات المهولة تُدار على المستوى العالمي بحكمةٍ هزيلة، أو بدون أية حكمة، وبأخلاقِ عصورِ الصراع والافتراس والاستئصال؛ فقد تأكَّد من التاريخ، ومن الواقع، ومن منظومة العلوم المعرفية؛ أن الإنسان كائنٌ غير عقلاني. وإذا نحن وضعنا كل ذلك بالاعتبار، وتَذَكَّرْنا الحلقات الأربع المستحكمة؛ أدركنا أن البشرية قد امتلكت تقدُّمًا هائلاً في المجالات العملية والمهنية والتنظيمية وقدرات التمكين، لكن العقل البشري عمومًا؛ ما يزال كما يقال كان منذ أقدم العصور. يقول ابن خلدون: ((الناس بهم غفلةٌ واستعبادٌ ومهانة))ويقول جون كينيدي: ((العدو الماحق للحقيقة هو الخرافة الملِحَّة المقَنَّعة)) ويرى برناردشو أن الناس: ((جمهورٌ قاصرٌ غير كفء)) أما المعلومات الكثيرة فلا تعني تصحيحًا لما تم التطبُّع به. إلا إذا تَكَوَّن بها رؤيةٌ فردية فاحصة مغايرة وهذا في غاية الندرة. ومثلما يقول الفيلسوف كولنجوود في كتابه (فكرة التاريخ): ((الحقائق المنفصلة بعضها عن بعض؛ لا تستند إلى وحْدَةٍ تُنَسِّق بينها كلها في نسيج))فلابد أن ندرك؛ انتفاء مبرر الوثوق المطلق الذي يمارسه الجميع تقريبًا. ومثلما بيَّن غيرت هوفستيد، ودانييل بولنجر في كتابهما (الفروق الثقافية بين الأمم) حيث أكَّدا: ((بأن كل فردٍ يمتلك برمجةً عقليةً مستقرة)) ويضيف المؤلفان: ((وهذا يفسر وجود سلوكيات متباينة على الصعيد الشخصي في وسطٍ ثقافي واحد)) إن الإنسان لا ينظر إلى الأمور والأشياء والأشخاص والأفكار بمنظار موضوعي، وإنما ينظر إليها من خلال نماج ذهنية يختلف بها كل فرد عن كل الآخرين. كما أن كل الآخرين يختلف بعضهم عن بعض بمقدار اختلاف نماذجهم الذهنية ...

لكل فرد أنماطٌ ذهنية ووجدانية تختلف عن الأنماط الذهنية لكل الآخرين؛ ومن هنا تأتي تلقائية وحتمية الاختلاف؛ ومثلما يقول الدكتور جنان محمد أحمد في كتابه (الابستمولوجيا المعاصرة): ((إن ما نتصوره في عقولنا ليس هو الحقيقة ولا الواقع. ولكنه صُوَرٌ وتَمَثُّلات)) ويوضِّح عالم النفس إريك فروم في كتابه (الحب أصل الحياة) بأن الإنسان لا يرى: ((لكنه يتخيَّل؛ إن الحقيقة ذات الصلة؛ هي ما ثَبَتَ في مخيلته. وليس ما هو ماثِلٌ أمامه)) ويقول الدكتور أحمد القنيش في كتابه (أصول التربية): ((كلمة الأوهام عند بيكون تَعْني الصورة التي ترتسم في الذهن عن الحقيقة دون الحقيقة نفسها)) ويقول روبيشفان في كتابه (السوسيولوجيا والتاريخ): ((من أجل إيصال فكرةٍ للآخرين لتصبح مفهومةً لديهم؛ يجب أن تتخذ شكلها المادي على شكل صورة)) لذلك تتباين فُهوم الناس بقدر اختلاف تصوراتهم الذهنية. وقد نبَّه لذلك تفصيلاً عالمُ الاقتصاد المفكر توماس سوويل في كتابه (تناقض الرؤى) وفي كتابه (المثقفون والمجتمع) وغيرهما حيث أنه قد انتبه لهذه الظاهرة التي لابد أن يعيها الكل. لذلك بقي مليارات البشر محكومون بما تتوارثه الأمم من أنساق ثقافية انسابتْ إليها من أعماق التاريخ عبر تتابُع الأجيال أما الذي تَحقَّق من تطورات الأفكار والعلوم للعالم على المستوى العام، وكذلك على المستويات الفردية؛ فهو عَقْلَنَةُ العمل؛ تنظيمًا وأداءً، واكتساب مهارات وكفايات الأداء في مختلف المجالات؛ إنه بعقلنة العمل والتنظيم؛ تَحَقَّق كل ما تحقق؛ مع استمرار هيمنة الأنساق الثقافية المتوارَثة؛ هيمنةً تلقائية؛ على كل الأمم، وهيمنة الحلقات الأربع المستحكمة على كل الأفراد؛ فالأصل في الإنسان في الماضي والحاضر في كل المجتمعات أنه يعيش بوعي زائف، وأنه يبقى دائمًا يَتَوَهَّم المعرفة ... 

إن وجودَ وتفكيرَ وسلوكَ كل فردٍ؛ يأتي كجزءٍ من تيارٍ اجتماعي؛ يَنتظِمه نسَقٌ ثقافي عامٌّ متوارَث؛ يمتدُّ إليه من أعماق التاريخ؛ في انسيابٍ تلقائي حتمي. ورغم تبايُن هذه الأنساق، التي تتوارثها الأمم، ورغم تنافُرها؛ فإنها ظلت رغم كل العلوم؛ مهيمنةً تلقائيًّا على العقل البشري في عمومه؛ بكل ما تكتظُّ به الأنساق من تلقائية وتباين وتنافر وأوهام، وأحقاد وثارات وحماقات ورعونة وانتفاش وتفاخر واندَماج تلقائي للأفراد؛ إن كل ذلك وأسوأ من ذلك؛ ينسابتلقائيًّا وبشكلٍ حتمي من أعماق التاريخ، عَبْر تتابُع أجيال كل الأمم؛ مثلما تنساب الأنهار مع مجاريها. إن العقل البشري، بكل أنساقه الثقافية؛ قد كَوَّنه واحتله ويتحكم به الأسبق إليه. ومع كل هذه الهيمنة للأنساق الثقافية، وللحلقات الأربع المستحكمة؛ فإن كل فرد يبقى يتَوَّهًّم أنه عقلانيٌّ محض، وأنه هو بنفسه؛ قد كَوَّن كلَّ ما تمتلئ به خافيته، ولم يَعْلَم إنه مبرمَج بما لم يُخضعه لأيةِمساءلةٍ أو تحليلٍ أو غربلة. كما أن كل أمة تَنظر إلى نسقها الثقافي؛ على أنه يجسد العقل والحق والخير والحقيقة، وأن الأنساق المغايرة له؛ ما هي إلا أساطير وهراء وضلالات وتهويماتبعيدة عن التعقل. ولا يخطر على بال هذا الطوفان البشري أن ينتبه بأن نَسَقه الثقافي قد انساب إليه من الماضي انسيابًا تلقائيًّا، وأن استمراره كان بتلقائية حتمية، وأنه لا ينظر إلى الوجود وإلى العالم وإلى الأنساق الأخرى إلا من خلال هذه النسق ذاته؛ فأحكامه هي انحيازٌ تلقائي مطلق ... 

إن استحكام هذه الحلقات الأربع على عقلِ ووجدانِ كل فردٍ؛ قد جعلته يرتكب الظلم؛ فيَتَوَهَّم أنه يحقق العدل؛ إن فيلسوف التاريخ ثوكوديدس حين أكَّد قبل أربعةٍ وعشرين قرنًا: ((أن جميع حجج الحق ليس لها أي وزنٍ في عالم البشر، إلا بقدر تَمَتُّع الخصوم الماثلين بإمكاناتِ قَسْرٍ مساويةٍ، وأنه عندما لا تكون الحال كذلك؛ فإن الأقوى هو الذي يفوز بأكبرِ كسبٍ ممكن جرَّاء قوته. بينما لا يملك الأضعف سوى الإذعان للأقوى)) وهذا حاصلٌ ويحصل بشكلٍ تلقائي؛ على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الدول، إن البشر لم يتغيروا منذ ذلك الحين؛ فمنطق القوة هو الفيصل. إنه سلوكٌ تلقائي. فالناس هم الناس، مهما بلغ بريق الإمكانات. إن الناس الأحياء في كل العالم يفكرون؛ بنفس أفكار الموتى، لكنهم بواسطة التنظيم وتوزيع المهام العملية؛ وتقسيم العمل إلى تخصصات؛ بات الناس يمتلكون كفاياتٍ عملية باهرة؛ وبهذا التقسيم للعمل؛ وبالتنظيم والإدارة؛ تَحقَّق تكامُل الخدمات. فكلُّ فردٍ يتأهَّل لخدمةِ المجتمع في مجالٍ يَبتعِد عن المجالات الأخرى؛ فلا يكاد يوجد جامعٌ لعمل المحاسب مع عمل الكيميائي، أو عمل المهندس الانشائي، مع عمل المحامي، أو عمل الطيار مع عمل معلم اللغة العربية، أو عمل رجل الأمن مع عمل الصيدلي. إن البشر صاروا يَملكون قدراتٍ عمليةٍ وتنظيمية دقيقةٍ هائلةٍ، وباتت البشريةُ تَملك إمكاناتٍ تدميرية جبارة مذهلة. أما العقل البشري في بنيته القاعدية؛ وفي معاييره وولاءاته وانتماءاته؛ فقد كَوَّنه ويَحتله ويتحكَّم به الأسبق إليه من الأنساق الثقافية المتوارَثة ... 

إن الأنساق الثقافية للأمم قد تَكَوَّنت وتراكمت تلقائيًّا خلال أزمانٍ سحيقةٍ؛ وظل كل نسقٍ ثقافي لأية أمة يتدفَّق تلقائيًّا وبشكلٍ حتمي عَبْر كلِّ الأجيال المتتالية؛ فيتشكل به تلقائيًّا عقلُ ووجدانُ كل فرد. يقول وليم رالف إنج: ((الأمة مجتمعٌ يَجْمَعه وهْمٌ عن أسلافه، وكُرْهٌ مشترَك لجيرانه)) ويؤكد الخبير الدولي جلين فيشر في كتابه (دور الثقافة والإدراك في العلاقات الدولية): ((أن الناس يرون القضايا والأحداث من خلال عدسةٍ ثقافية)) كما يوضح أن موظفيالأمم المتحدة؛ قد عانوا من صعوبات التفاهم مع الناس من مختلف الثقافات؛ بسبب اختلاف الرؤى حسب اختلاف القيم، واختلاف المصالح وتباين المواقف؛ حيث تختلف معاني نفس الكلمات باختلاف الأنماط الذهنية. بل حتى الأحداث والوقائع يكون لكل طرف عنها تصورات ذهنية مختلفة عن الأطراف الأخرى. فمن خلال علمه وتجربته مع الناس من مختلف الأنساق الثقافية؛ وكذلك عمله في التدريس الجامعي؛ أراد أن يضيء للعاملين في الأمم المتحدة وغيرها: أن ((الحالات الذهنية، والعدسة الثقافية؛ جوهرية للإدراك والتفكير، وهي المنبع الأساسي للبرمجة التي تنجذب إليه الحالات الذهنية؛ إن الثقافة مُحَدِّد أساسي للحالات الذهنية)) إن العدسة الثقافية، لكل طرف ولكل فرد هي التي تتحكَّم بفهمهم للأمور واستجابتهم للأحداث. وبيَّن أن هذا المحدِّد المبدئي؛ ظلَّ غير مدرَك: ((بالرغم من أن علماء الانثروبولوجيا قد أوضحوا منذ أمد طويل؛ الصلة بين الثقافة، وطريقة رؤية الناس إلى الأمور والتفكير في شؤون العالم)) ثم أكَّد: ((أن الناس لا تقودهم نفس الدلائل إلى نفس الاستنتاجات)) ويضيف: ((من الجوهري أن الناس بمن فيهم من يقفون إلى جانب المرء في قضية معيَّنة؛ لا يستجيبون لأي حدثٍ أو قضيةٍ على أساسِ الحقائق، بل على أساس ما يتصورون أو يعتقدون أنه قد حَدَثَ، أو كان هو الأمر موضِع النزاع)) ثم يؤكد بأن: ((العلاقات الدولية تدور حول التفاعل بين صورٍ ذهنية)) إن الناس لا يرون الأمور والأشياء بمنظار متماثل أو متقارب بل ينظرون إليها من خلال الأنساق الثقافية التي تطبعوا بها، ولا يتوقف الإشكال على اختلاف الأنساق بل إن اختلاف الأنماط الذهنية بين فرد وآخر تمثل عائقًا عميقًا يحول دون تبادل الفهم حتى داخل كل نسقٍ ثقافي، أما إذا اختلفت الانساق فالتباعد أشد والحواجز أقوى وأمنع  ...

ويُوضِّح جلين فيشر عمقَ الذاتية في أعمال التقييم والرؤى، ويؤكد: ((أن الإفلات من الذاتية أمرٌ نادر إن لم يكن لا وجود له)) ليس هذا فقط بل حتى داخل المهنة الواحدة يعاني العاملون سوء الفهم، بسبب اختلاف أنماطهم الذهنية بين كل فرد وآخر؛ فيقول: ((حتى في العمل المهني؛ يُدرك معظم الناس البُعْد المتعلق بالحالة الذهنية؛ عندما يتعاملون مع وجهات نظر مختلفة، أو مجموعة أوَّليات مختلفة)) وينبه إلى أن جهل الناس باختلاف أنماطهم الذهنية؛ يضاعف صعوبات التفاهم؛ لأن كل طرف لا يدرك أن الطرف الآخر يرى الأمور رؤيةً مغايرة، لكن هذه الحقيقة تغيب عن الجميع؛ فيقول: ((إن البحث الجاد في طبيعة وتأثير الحالات الذهنية المتعارضة؛ نادرًا ما حظي بالاهتمام العميق، ولم يلق إلا اهتمامًا عابرًا)) ويلفت النظر إلى أن القوالب الثقافية المختلفة؛ تستبقي الناس غير قادرين على التفاهم؛ مهما كانوا يجيدون التحدث بلغة واحدة. يقول: ((أعظم المهام في التعامل بين الثقافات عندما يكون على شخصٍ غربي أن يَفهم ويتعامل مع تصرفاتٍ تَستمدُّ مشروعيتها من افتراضاتٍ بعيدةٍ تمامًا عن الافتراضات المقبولة في القالب الغربي)) إن كل نسقٍ ثقافي تكون له معايير وقوالب وقيم وتصورات وبداهات؛ مغايرة لكل معايير وقوالب وقيم وتصورات وبداهات الأنساق الأخرى. لكن الناس من مختلف الأنساق، ومن داخل كل نسقٍ ثقافي؛ يواجهون الحياة ويُقَيِّمون الأشياء والأعمال والنوايا والأشخاص في غفلة تلقائية عن هذا التقولب المسبق. ولولا أن الظروف وتَشابُك المصالح، والاضطرار إلى محاولة التَّفَهُّم لما كان ممكنًا أن يحصل التفاهم بين الأمم.  وحتى داخل كل نسق ثقافي يكون لكل فرد أنماط ذهنية ووجدانية مغايرة لأنماط أي فرد آخر؛ فسوء الفهم حاضر في كل تواصُلٍ ...   

      وحتى داخل نسقٍ ثقافي واحد تختلف تصورات الأفراد وتتباين أنماطهم الذهنية؛ فتتنوَّع ردود فعلهم، وتختلف فهومهم، وتتباين أحكامهم ورؤاهم ومواقفهم؛ ومثلما يقول هاملتون في كتابه (الشعر والتأمل): ((الحقيقة البسيطة؛ أنه حينما نُقْبِل على أي عملٍ؛ يكون لكلٍّ منا وضْعه السابق الخاص به: أي حساسيته التي تختلف في نوعها عن حساسية غيره، وقِسْطه من الثقافة، وآراؤه، وموقفه من الحياة. وهذه جميعًا تَختلف من فردٍ لآخر. ويؤثِّر التكوين المختلف لكل قارئ بشكلٍ حيوي في نوع التجربة التي يُمْكِنه أن يتلقاها)) وينبِّه إلى: ((أن حقيقة تنوُّع التجربة قلَّما تَجِد ما تستحقه من اهتمام الناس)) وتَكَرَّر التأكيدُ من أن الناس لا ينتبهون لهذه الحواجز فلا يولونها ما تستوجبه من الاستعداد والتهيؤ والاحتياط. يقول الدكتور محمد الزايد: ((بالقراءة يشرع التأويل؛ لأن فِعْلِية القراءة؛ إنما هي فِعْلٌ إنشائيٌّ)) فرغم أن الناس مختلفون ويعانون من هذه الاختلافات؛ إلا أنهم يَغفلون عن تلقائية وحتمية هذه الاختلافات، ومن النادر أن يهتم الناس ببذل جهدٍ حقيقي لتفهُّم وجهات النظر المغايرة ... 

وبينما هذا شأن الكثرة من الناس فإنه على مستوى القلة المبدعة؛ نجد أن تاريخ الفكر وتاريخ العلم وتاريخ الاختراع وتاريخ الإبداع عمومًا؛ يحصل أن يتحقق اكتشافٌ علمي من شخصيات فريدة متباعدة في المكان والزمان دون أن يكون أحدهم قد اطلع على عمل الآخر؛ لأن قوانين الفكر البشري تَدفع بالاتجاه نفسه؛ متى تحقَّق الاهتمام التلقائي القوي المستغرق. يقول البروفيسور بيير بايارد في كتابه (ماذا لو غيَّرت الأعمال الأدبية والفنية مؤلفيها): ((يمكن لمؤلفين من عصور مختلفة؛ أن يُعَبِّروا عن أنفسهم بطريقة متشابهة أو متطابقة. هذه الفرضية تقتضي الإقرار بوجود تجارب عالمية من الممكن التوصل إليها بأشكالٍ متقاربة في فتراتٍ مختلفة من التاريخ الأدبي، ولا تكون ملكًا حصريًّا لهذا أو ذاك، بل تنتمي إلى كل الذين ينقلونها، ويصيرون بهذا مشاركين في ملكيتها)) إن التفكير البشري محكومٌ بنفس القوانين فإذا توافرتْ نفس الظروف تحققت ذاتُ النتائج ...

  وما يهمني هو تأكيد أن الإنسان كائنٌ تلقائي، وأن سلوكه وتفكيره ورؤيته للعالم محكومة بالتطبع التلقائيِّ وبالتعزيز الحتمي ضمن البيئة التي ينشأ فيها. إن قابليات كل مولود في الغرب والشرق، في كل مكان؛ تبدأ بالتكيُّف التلقائي والتطبُّع والتبرمُج بما يتلقاه الطفل من البيئة، قبل بزوغ وعيه، وتَكتمِل بنيته الذهنية القاعدية؛ قبل أن يدخل المدرسة؛ إن كلَّ طفلٍ يتعلَّم ما يتلقاه في المدرسة بواسطة البنية الذهنية القاعدية التي شَكَّلَها النسقُالثقافي، حتى لو كان متَّقد الذكاء. إن الأنساق الثقافية ما تزال تتحكم بالعقل البشري في أشد الأوطان ازدهارًا ماديًّا كاليابان وأمريكا وغيرهما ... 

ذلك هو بعض ما حاولتُ بيانه نظريًّا طيلة أربعين عامًا تقريبًا من الكتابة واللقاءات التلفزيونية والمحاضرات والأحاديث الصحفية؛حيث جعلتُ (تأسيس علم الجهل لتحرير العقل) عنوانًا للمشروع الفكري، الذي كتبتُ تحته خلال أكثر من ثلث قرن؛ مئات المقالات، وتحدثت عنه في العديد من اللقاءات التلفزيونية، والمحاضرات،وأُواصِل إصدار كتبي تحت نفس العنوان؛ لقد اعتقدتُ بعد كل ذلك؛ أنه بات مفهومًا أن المستهدَف؛ هو تحرير العقل البشري منالحلقات الأربع التي تحيط به وتُغَلِّفه وتُوهِمه بشكلٍ تلقائي بأنه يعرف. إن التطبع التلقائي ثم التعزيز القصدي، واختلاف الأنماط الذهنية بين كل فرد وآخر، والتَّوَهُّم التلقائي للمعرفة؛ إن كل هذه الحلقات المستحكِمة؛ هي الأصل في الإنسان؛ فالفرد بعد أن تتكَوَّن أنماطه الذهنية القاعدية، في الطفولة المبكرة، وتَثْبت بالتعزيز والتكرار والتعود؛ فإنه يتحدَّد اتجاهُه ومسارُه، ونمطُ تفكيره وأسلوبُ تعاطيه مع الحياة والأحياء ... 

إن الفرد بعد أن تتحدَّد بنيته الذهنية والوجدانية القاعدية؛ يظل طول عمره؛ تُوهِمه أنماطُه الذهنية دائمًا أنه يَعْلَم؛ بينما أنه في الحقيقة لا يَعْلَم. لكنه وهْمٌ مُسْتحْكِم؛ فالأصل في الفرد أنه لا يشك في معرفته؛ حيث تبقى هذه البداهة الواهِمة مستحكِمة وتتحكَّم به؛إلا إذا ارتطم بعائقٍ صلدٍ يحول بينه وبين ما يريد؛ أي أنه لا ينتبه لاستحكام تَوَهُّم المعرفة؛ إلا إذا واجهته عقبةٌ تَضطره أن يتحقَّق. إنكل إنسان يتوَهَّم أنه يَفهم في السياسة والاقتصاد والاجتماع وفي إدارة شؤون البشر وفي قضايا الفكر، ففي أي مجلس يضم مختلف الأطياف من الناس؛ إذا حَصَل أيُّ نقاشٍ في شؤون الدين والدنيا؛ تتناول القضايا الفكرية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والإنسانية المعقَّدة؛ فإن كل فردٍ يَعتقد بوثوقٍ مطلق بأنه يَعرف، وبأن مَن يخالفونه لا يعرفون ولا يفهمون، ومهما كثُر مخالفوه؛ ومهما قوِيَتْ حجةُ الطرف المقابل؛ فإنه لن يزداد إلا إصرارًا على رأيه، مع أنه لم يَبذل أي جهدٍ لتكوين هذا الرأي وإنما فقط؛ لأن أنماطه الذهنية تُوهِمه بذلك، هكذا هو الإنسان؛ وقد تجلى ذلك على مستوى عالمي واسع ومفتوح عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي مما جعل العالم المبدع امبرتو إيكو يقول: ((إن وسائل مثل تويتر وفيسبوك؛ مَنَحَتْ حق الكلام لفيالق من الحمقى؛ مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل؛ إنه غزو البلهاء)) إن مَن يدرك ذلك، ويرى الكلَّ مندفعين في هذا التوَهُّم يشعر بالأسى؛ إنها حقيقةٌ مؤلمة؛ يقول نجيب محفوظ: ((ينتابني إحساسٌ بالألم لما هو كائنٌ، وأملٌ فيما يجب أن يكون)) إنها معضلةٌ بشريةٌ عامةٌ وعميقةٌ، لكنها خَفِيَّةٌومحجوبةٌ بتلقائيةِ فاعليةِ الأنماط الذهنية والوجدانية؛ ورغم امتداد ضررها وتَنَوُّعه؛ فإنها لم تنل اهتمامًا مناسبًا مع أنها تمثل إعاقة بشرية عامة فظيعة مدمِّرة ... 

  إن هذه الحلقات الأربع الأشد استحكامًا؛ تتحكَّم بالأفراد والأمم؛ ففي كتاب (قواعد لغة الحضارات) للمؤرخ الفرنسي المفكر فرنان بروديل؛ يتوقَّف أمام جمود الثقافة الكونفوشيوسية، والهندوسية والبوذية؛ مؤكِّدً أن الأنساق الثقافية في الهند والصين واليابان، وكل ثقافات الشرق الأقصى؛ تَبقى جامدةً، وأن طبيعتها التكوينية لا تسمح بأي تغيير. ويقول: ((في حضارات الشرق الأقصى؛ تَقَرَّر كلُّ شيءٍ قبل بدء التاريخ بكثير؛ أي منذ فجر الحضارات الأولى)) ويوضِّح أن هذه الأنساق الثقافية؛ ظلت متحجرةً داخل أُطُرها المغلقة، وهياكلها الجامدة. ثم يُضيف: ((لقد استمدتْ تلك الحضاراتُ؛ وحدةً وتَجانُسًا مثيرين، وكذلك صعوبةً بالغة في التغيير، وكأنها حَكَمَتْ على نفسها على الدوام برفْضِ أي تغيير أو تَقَدُّم)) ويضيف أن الأشياء تتغير أما: ((الإنسان، وما هو اجتماعي، وما هو ثقافي؛ فيبقى صامدًا أمام غوائل الزمن، وهو يعود إلى ماضٍ سحيقٍ ضاربٍ في القِدَم)) ويؤكد: ((أن الشرق الأقصى؛ يَجهل الفصل بين البشري والإلهي؛ يختلط الديني بكل أشكال الحياة البشرية؛ فالدولة دينٌ، والفلسفةُ دينٌ، والأخلاقُ دينٌ، والعلاقاتُ الاجتماعيةُ دينٌ، وكل هذه الأشكال مرتبطةٌ بقوة بالمقدَّس، وتَستمدُّ منه نزعتها نحو الثبات والأبدية)) ويصوِّر ميشيل فوكو في كتابه (الكلمات والأشياء) رؤية الغرب لتحَجُّر وأبَدِية الثقافة الصينية فيقول: ((الثقافة الصينية هي أشد الثقافات؛ صَمَمًا إزاء أحداث الزمان، وأكثرها ارتباطًا لمجريات الامتداد المحضة، كما أننا نفكر بها كما نفكر بحضارة الأقنية والسدود المقامة  تحت وجه السماء الأبدي، ونراها منتشرةً ومجَمَّدةً على مساحة قارةٍ محاطةٍبالأسوار؛ إنها ثقافةٌ مكَرَّسةٌ بأجمعها لتنظيم الامتداد)) إن الأبدية والاستمرارية ليست خاصَّة بثقافاتِ الشرق الأقصى؛ ففي العصور الوسطى؛ كانت أوروبا، في تَحَجُّرٍ لا يَقِلُّ عن تحجُّر ثقافات الشرق الأقصى. بل إن فوكو نفسه يقول: ((إن القوانين الأصولية لثقافةٍ ما؛ تثبت من البداية لكل إنسان؛ النُّظم التي سيجد نفسه فيها)) ويقول: ((فالتاريخ لا يَسمح للإنسان بالإفلات من حدوده الأصلية إلا ظاهريًّا)) فمهما بدتْ الظواهرُ بأن كلَّ شيءٍ قد تغيَّر إلا أن الحقيقة أن ما كان يُعتبر أساسيًّا في أي نسق ثقافي؛ يظل كما هو أساسيًّا. إن التاريخ البشري وواقع الأمم؛ كلاهما يؤكد الاستمرارية التلقائية الحتمية. ليست فقط للثقافات التي تحميها استمرارية نمطالمؤسسات. بل حتى ما يبدو في المجتمعات المزدهرة ماديًّا؛ أنها تدار بعقولٍ متحررة من الانساق الثقافية؛ فإن الحقيقة تؤكد بأن العالم كله لا يدار بالعقل المحض وإنما هي فاعلية تلقائية الاندفاع للمصالح الفردية وملاءمة البيئة وتوازن المؤسسات، وتدافُع القوى بما يضمن استمرار الانتظام في المسار الذي حدَّدَته مجموعةٌ من الأحداث. إنه بالأحداثِ وبقلةٍ من الأفراد من مشاعل الفكر وقادة الفعل، تتحدَّد مساراتُ تاريخ كل أمة. وقد أوضحت ذلك في كتابي (الريادة والاستجابة)  

  إن أمريكا اللاتينية، بكل دولها وكثافاتها السكانية؛ ما تزال تختنق بثقافةِ العصور الوسطى التي جلبتْها لها إسبانيا والبرتغال، فبقيتْ هذه القارةُ يَعْتَقِلُها نَسَقُها الثقافي المتحجِّر. لكن وسط هذه القارة المعتقلة بنسقها الثقافي ظهرتْ مشاعل فكرية وإبداعية فردية لا تقل عن المشاعل الفكرية والإبداعية التي ظهرت في أشد الأمم ازدهارًا مما يؤكد أن مشاعل الفكر والإبداع يصيرونخارج الأنساق الثقافية التي ينتمون إليها، وبالمقابل يوجد في قلب القيادة الحضارية المعاصرة؛ في الولايات الأمريكية المتحدة نفسها؛ طوائف دينية مثل طائفة الامش؛ ما تزال تَرفُض كل جديد، وتُحَرِّم كل منجزات الحضارة الحديثة، ففي أحيائهم؛ لا يَستخدمون الكهرباء ولا الهواتف ولا السيارات؛ فخيولهم تَجُرُّ العربات، وتختلط في الشوارع بأحدث ما أنتجته مصانع السيارات. إن الأنساق الثقافية، تَملِك ولا تُمْلَك، وتُهيمن ولا يُهيمن عليها؛ فحُكْمُها حاسمٌ. إن التاريخ البشري؛ يؤكد بما لا مزيد عليه؛ بأنه لم يَسبق لأية أمةٍ أن تخلَّتْ اقتناعًا عن نسقها الثقافي الذي تطبعت به تلقائيًّا وانساب إليها عبر الأجيال بشكل تلقائي حتمي؛ وإنما حصلت التحولات الحضارية؛ بما سمَّاه هيجل مكر التاريخ؛ فالعقل يُكَوِّنه ويحتله ويتحكم به الأسبق إليه.  ورغم استحكام سيطرة الأنساق الثقافيةعلى العقل البشري؛ فإنها ليست سوى إحدى حلقاتٍ أربعَ؛ تحيط بعقولِ الأفراد في كل مكان. وتُحدِّد اتجاهَ ومسارَ كل فرد. إن الأصل في الإنسان أنه ليس كائنًا معرفيًّا بل هو كائنٌ ثقافي نسَقي في رؤيته للعالم، إنه محكومٌ بالقيم وبالانتماء وبالدوافع والميول التلقائية وبالولاءات. أما في شؤون الحياة اليومية والقدرات فهو كائنٌ عمليٌّ تتركز معارفه ومهاراته فيما يَضْمَن له البقاء؛ حيث تُحركه أهواؤه ورغباته واحتياجاته ومتطلبات الأهمية ودواعي الوجاهة ...                    

إن الأفراد داخل أي نسق ثقافي، ليسوا سوى قطرات في التيار العام الذي يجري؛ ممتدًّا من الماضي منذ قرون، وما يزال، ينساب مع مجراه، بشكلٍ تلقائي حتمي. ومع أن كلَّ مجتمعٍ يرى المجتمعات الأخرى مغايرةً له في القيم والتفكير والولاءات؛ لكن كل طرفٍ يَعتقد أنه هو وحده الذي على الحق والعقل، وأن كل الآخرين ضالون وتائهون ويعانون عمى البصيرة؛ فيبقى أتباع الأنساق متنافرين؛ وكلٌّ منهم يظل منتظمًا بنسقه الثقافي الذي انساب إليه تلقائيًّا من أعماق التاريخ؛ إن طبيعة الإنسان التلقائية تُبقيه متوهمًا وغافلاعن هذا التوهم. إن الأصل في الفرد أنه لا يدرك الحلقات الأربع التي تَعزله وتُبقيه واهمًا. إن علينا جميعًا أن نعي وعيًا عميقًا ومتجدِّدًا؛ بأن الأصل في الإنسان أنه؛ قد تطبَّع تلقائيًّا بأحد الأنساق الثقافية المتوارَثة، وأنه أيضا تختلف أنماطه الذهنية عن أنماط الأفراد الآخرين من نفس النسق، وأنه لا يدري أنه قد تطبَّع وإنما يتوهم أنه اكتسب محتوى عقله باختياره وبوعيه وبيقظةِ عقله، إنه لا يَعْلَم أنه لا يَعْلَم. إن كل هذه الحواجز تُحيط به وتَعزله عن الرؤية الموضوعية، إلا إذا اضطر إلى التحقُّق، وهو لا يضطر غالبًا إلا بشيءٍ يمسه شخصيًّا ...  

أعود لأقول بأني رغم كل ما بذلتُ لإيضاح أن مشروعي الفكري؛ يتعلق بمعضلة هيمنة الأنساق الثقافية على العقل البشري، واختلاف الأنماط الذهنية والوجدانية لكل فرد، عن الأنماط الذهنية والوجدانية لأي فرد آخر، وكذلك تلقائية تَوَهُّم المعرفة؛ فإن الالتباس حول المقصود بعلم الجهل ما يزال يتردد صداه. لذلك رأيت أنه يَلزمأن أُوضح أنني أقصد الجهلَ المتوهَّم علمًا، أي الجهل المرَكَّب. إن الجهل بهذه الصفة ليس عدَمًا وإنما هو كيانٌ عميقٌ، شديد الصلابة. لكن الناس يَجهلون أنه يُهيمن على عقولهم؛ إنهم يَنظرون إلى الجهل المركَّب؛ الذي هو تَوَهُّم المعرفة؛ بأنه آفةٌ فردية نادرةٌ؛ تصيب بعض الأغرار كمشكلةٍ فردية، بينما الحقيقة أن تَوَهُّم المعرفة ليس نادرًا بل الكلُّ غارقٌ فيه؛ ليس في مجتمعٍ دون غيره وإنما في كل المجتمعات؛ أي على مستوى العقل البشري بأجمعه؛ فالأصل في الإنسان أنه لا يَعْلَم أنه لا يَعْلَم. إلا إذا اصطدم بمشكلة تَخُصُّه، ففي هذه الحالة فقط يجد أنه يَلزمه عمليًّا أن يتوقف ويتأمَّل ويَبحث ويَستقصي؛ ليس إدراكًا لأصالة وأولوية وتلقائية الجهل، أو حُبًّا للحقيقة المجردة لذاتها، وإنما لأن الأمر يتعلق به شخصيًّاوبوجوده؛ لدفعِ ضررٍ محتملٍ أو جلبِ نفعٍ مأمول؛ في هذه الحالة فقط يواجه الشخصُ الموقفَ باهتمامٍ خاص وبوعيٍ استثنائي؛ فيَبحث ويَستقصي ويتحرَّى ويَستنفِر طاقاته بقدر أهمية الموقف بالنسبة له. أما في أكثر الأوقات، ومختلف المواقف؛ فإن الفرد يَظل يتوَهَّم أنه يعرف من دون أن يبذل أي جهدٍ للتحقق من هذه المعرفة المتوَهَّمة ...

إن الأصل في الإنسان أن انتباهه مرتبطٌ بجلْب النفع، ودَفْعِالضرر. ومثلما يُنَبِّه الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه (الضحك) فيقول: ((الحياة تقتضي أن ندرك الأشياء في علاقتها بحاجاتنا. فالحياة هي العمل، هي أن لا نَستقبل من الأشياء إلا الإحساس المفيد؛ لنردَّ عليه باستجاباتٍ مناسبةٍ؛ أما الإحساسات الأخرى؛ فلا تصل إلينا إلا غامضةً)) يضيف: ((ما أراه وما أسمعه من العالم الخارجي؛ ما هو إلا ما تَستخلصه لي منه حواسي، بُغْيَةَ أنْ تُرشدني إلى سلوكي؛ وما أعرفه عن نفسي؛ هو ما يطفو على السطح ويساهم في العمل. إذن فحواسي وشعوري لا تُقَدِّم لي من الواقع إلا صورةً مبسَّطةً عمليةً، تَمحي فيها الفروقُالتي لا تفيدني عمليًّا، وتُبرز المشابهات التي تنفعني، وتَرسم مقدَّمًا الطُّرُق التي سأسلكها في عملي. وقد صُنِّفَتْ الأشياء على حسب الفائدة التي يمكن أن أجنيها منها)) إن دماغ الإنسان بطبيعة تكوينه هو جهازٌ عمليٌّ؛ فهو يُرَكِّز على ما يَنفع ويَحفظ للشخص حياته، ويُبعده عن الخطر والضرر. لذلك فإن معارف الإنسان غالبًا هي أبعد ما تكون عن الدقة فهي تُركِّز على العموميات؛ إن الإنسان يُعمِّم من حالةٍ فردية؛ فهو لا يرى العناصر المختلفة ذات التأثير بالمواقف والأوضاع. وإنما يركز على النتائج الآنية. ومثلما يضيف برغسون: ((إن فردية الأشياء لَتَغيب عنا؛ كلما كان من غير المفيد لنا ماديًّا أن ندركها. إن الذي تدركه العين ليس هو الفردية نفسها، بل صفة أو صفتين تُيسران لنا سبيل التعرف العملي. إننا لا نرى الأشياء ذاتها، بل نَكتفي في معظم الأحيان بأن نقرأ عناوينها مُلْصَقةً عليها، وهذا الميل هو وليد الحاجة)) إن الأصل في الدماغ البشري وكذلك نتاجه الذي هو العقل الذي ليس سوى نشاطِالدماغ ذاته؛ إنه جهازٌ لحفظ الحياة، لذلك فهو يركز على ما له علاقة بهذه الوظيفة الأساسية فقط. أما العلوم الموضوعية فهي غير طبيعية، إنها غير تلقائية، إنها انفصالٌ قصدي ومنهجي عن الأنساق الثقافية ...

إن الهدف المعرفي الموضوعي، والشغف بالحقيقة والسعي التوَّاق إلى الاكتشاف؛ كلها أهدافٌ غير طبيعية بل هي متطلباتٌثقافيةٌ طارئة. لذلك فهي تكاد تكون معدومة عند أكثر البشر. أما الأفراد الذين يَدفعهم الشغفُ بالحقيقة، والولعُ بالمجهول، والتطلعُ إلى الكشف؛ فهم أفرادٌ استثنائيون غير قياسيين. ومثلما يؤكد العالم المفكر فرنان بروديل في كتابه (قواعد لغة الحضارة): ((أن الأسماء التي تهيمن فعلاً على تاريخ الحضارات؛ هي تلك الأسماء التي تَخترِق سلسلةَ الظرفيات؛ تمامًا مثل السفينة القادرة على مواجهة عدة عواصف. وعندما تتتابَع عهودٌ طويلة؛ يَظهر أصحابُ عقولٍ متميزةٍ يكونون بمثابةِ الخلاصة لعدد من الأجيال: دانتي في آخر العهد الوسيط، جوته في آخر الحداثة الأوروبية الأولى، نُضيف نيوتن على عتَبَة الفيزياء الكلاسيكية، أو كذلك ذائع الصيت آينشتاين)) ويضيف: ((ينتمي مؤسسو الأنساق الفكرية الكبرى؛ إلى هذه الطبقة الاستثنائية: إن سقراط وأفلاطون، وديكارت؛ يهيمنون على قرونٍ عديدة؛ فهم بُناةُ الحضارة)) ويقول في موضِعٍ آخر من الكتاب نفسه: ((تُهيمن الإبداعاتُ العظيمةُ على المسيرة العلمية)) ويضيف: إنها ((لحظاتٌ حاسمةٌ في التاريخ العام للعلوم)) ويقول: ((لقد تَمتْ القفزةُ إلى الأمام على أيدي عقولٍ استثنائية))إن تَوَهُّم المعرفة، على المستويات الفردية؛ وكذلك الأنساق الثقافية على مستوى الأمم؛ قد تملَّكا العقلَ البشري؛ تملُّكًا شاملاً وعميقًا. ولولا الفلتات الفردية الاستثنائية التي تفيض بالعبقرية والضياء؛لبقيتْ الإنسانية في عصورها المظلمة ...  

لذلك فإن الانتباهَ لهيمنةِ الأنساق الثقافية، والتحكُّم الذي تمارسه الأنماطُ الذهنيةُ الثابتةُ، ومعضلةَ تَوَهُّم المعرفة، وإدراكَ أنهذه المعوقات حتمية وعامة لكل البشر خلال كل العصور؛ وأنها العائق الأكبر والأشد استعصاء، وأنها رغم كل الأفكار وكل العلوم؛ لم تتزحزح؛ إن الانتباه لهذا كله في غاية الأهمية لكن طبيعة الإنسان التلقائية؛ جعلتْه لا ينتبه بأنه دائمًا يتوهَّم المعرفة في مجالات لم يؤهِّل نفسه لها، وإنما تَوَهُّم المعرفة يُلازِمه في كل الأحوال دون أن يَدري أو يَنتبه. إن موانع الإدراك عميقة وخفية وتلقائية الفاعلية في طبيعة العقل. إن كل فرد لا يرى وجهه إلا بمرآةٍ على مسافةٍ منه. ولكنه يرى نقائص الآخرين وعيوبهم، غير أنه لا يملك مسافة بينه وبين ذاته؛ لذلك هو لا ينتبه لنقائصه ولا يحس بعيوبه؛ إنه ينظر لذاته بنفس الأنماط التي تُوهِمه؛ فبالإضافة إلى انعدام المسافة؛ فإن أنماطه الذهنية والوجدانية تجعله يستحسن من نفسه كل شيء؛ لذلك لا يُدرك أو هامه بل يُخَيَّل له أنه يملك إدراكًا عميقًا ومعرفةًشاملة. فكل فرد تُوهِمه أنماطه الذهنية أنه يعرف؛ إن تَوَهُّم المعرفة هو الأعمق حضورًا في حياة كل إنسان. لذلك فإنه قبل أربعةٍ وعشرين قرنًا؛ أدرك سقراط بعبقريته الخارقة؛ أن الإنسان يَتَوَهَّم دائمًا أنه يعرف؛ فلدى كل فردٍ حسٌّ عام واهِمٌ بالمعرفة؛ كما أدرك سقراط أن الناس لا يُدركون أن هذا الحس العام مجرد توهُّم تلقائي.لأن هذا الحس هو البداهة التلقائية الجاهزة دائمًا. وكان سقراط يرى أن الناس لن يدركوا هذا التوهُّم إلا حين يتم صَدْمهم بتساؤلاتٍ محيِّرة؛ لإيقاظهم من غفلة البداهة، أو إحراجهم، أو اضطرارهم؛ فكان يرتاد تجمُّعات الناس في الأسواق وغيرها؛ ويستدرجهم بالأسئلة الكاشفة ويتظاهر بأنه جاهلٌ وأنه يريد منهم أن يُعَلِّموه؛ كان وهو يتساءل يتصنَّع الجهل من أجل أن لا يستفز الناس، حيث أنه بإحراجهم يضعهم أمام أوهامهم التلقائية ...

إن الأنماط الذهنية لكل فردٍ التي كَوَّنَتْ فيه تَوَهُّم الإدراك العام، تُوهِم كلَّ شخص بأنه يعرف؛ فلا يُدرك أنه يتوهَّم؛ ولكنه حين يكون أمام امتحانٍ؛ كالذي كان يمارسه سقراط؛ فإنه ينكشف أمام ذاته وأمام الناس؛ فيدرك تلقائية التوهُّم. إن سقراط كان يتعمَّد التظاهر بالجهل لكي يوقظ الناس من غفلتهم التلقائية، أراد أن يُرسِّخ في الأذهان أولوية تَوَهُّم المعرفة. لكن الناس لم يتقبَّلوا منه هذا الاحراج الذي هو بمثابة تسفيه؛ فحاكموه وأعدموه؛ فالإنسان ظلومٌ جهول. وحَفِظ افلاطون فِكْرَ سقراط، ليمتد الفكرُ الفلسفي في كل العالم، ولأن افلاطون قد تَشَبَّع بفلسفة سقراط؛ فإنه قد اعتبر أن الفرد الذي لا يَجرأ على التفكير المستقل؛ هو شخصٌ مُسْتَعْبَد ومن ذلك قوله: ((إذا لم نُرِدْ أن نفكر؛ فنحن متعصبون، وإذا لم نجرؤ على التفكير فنحن عبيد)) ورغم أن سقراط كافَحَ تَوَهُّمَ المعرفة عمليًّا بمنهجه التوليدي ولم يَكتُب بنفسه شيئًا إلا أن منهجه يوحي بطريقٍ غيرِمباشرٍ بأن الجهل الحقيقي؛ ليس هو ما يزيله الحصول على معلومات مما هو جهلٌ بسيط، بل إن المعضل الحقيقي هو الجهل البنيوي الخفي المتحكِّم. إن الجهل المعْضِل ليس فراغًا، ليس عَدَمًا، ليس افتقارًا إلى المعلومات، وإنما هو تَوَهُّم المعرفة؛ الذي هو بالنسبة لكل الأفراد بمثابةِ الحسِّ العام، والبداهة الجاهزة، ثم إن التطبُّع الأسبق والمعلومات الأسبق تَتَحَكَّم بما يأتي بعدها؛ إن بنية العقل الفردي حين تتكَوَّن تصير تتحَكَّم بما يأتي بعدها؛ نفيًا أو قبولا أو تحويرًا أو استبعادًا وحَذْفًا، أو تكوين أنماطٍ جديدةٍ إذا كانت المعلوماتُ محايدةً كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وغيرها. إن تحَكُّم الأسبق يمثل معضلةً عميقةً تَمنع تصحيح الأخطاء والأوهام، وتَحول دون قبول الحقائق. ولأن هذا التحكم يتم تلقائيًّا فإن أكثر الناس لا ينتبهون لهذا العائق المتحكِّم؛ فيتوهمون أن ذلك يحصل بإرادة؛ فالتحكم التلقائي يكون مصحوبًا بوثوقٍ تلقائي ... 

  إن تَوَهُّم المعرفة؛ ليس حالةً عابرةً بل هو بنيةٌ تَختفي في الأعماق، ولكنها ذات جاهزيةٍ دائمة؛ فلابد من أن يشهد الكلُّ عمليات تفكيكها وتعريتها؛ لكي تَنتقل من ظلمات اللاوعي؛ إلى ضياء الوعي. لذلك فإني رأيت ضرورةَ قيامِ علمٍ يُفَكِّك هذا التوَهُّم تفكيكًا نظريًّا؛ فكتبتُ مقالا بعنوان (سقراط يؤسس علم الجهل) ومع أن هذا المفهوم لم يرد في أي كلامٍ منسوب إليه إلا أن منهجه يوحي به. لقد امتد الفكر الفلسفي الذي خَلَّفه سقراط وغيره من الفلاسفة، الذي هو في الأصل ثورةٌ على تلقائيةِ تَوَهُّم المعرفة؛ امتدَّ على مستوى قِلَّةٍ من الأفراد ليتواصَل الفكرُ الفلسفي تَواصُلاً فرديًّا؛ فعنداقتراب نهاية العصور الوسطى؛ نقرأ عنه في الجزء الثامن عشر من الكتاب العظيم (قصة الحضارة) لويل ديورانت؛ فصْلاً مهمًّا عن الإنسانيين؛ دانتي وبترارك وآخرين، وعن دورهم العظيم في إحياء التراث اليوناني، وإعادة توطين تمجيد الحياة، والكف عن تمجيد الثقافة الجنائزية. ثم جاء فرانسيس بيكون وسار في الاتجاه نفسه وأعلن الحرب على ما أسماها؛ أصنامَ العقل، وجاء مونتاني فأشاع فلسفة الشك، وتَهَكَّم بالوثوق الأعمى. وجاء ديكارت وأعلن للناس في كتابه (مقالٌ في المنهج) بأن عليهم البدء بإخلاء أذهانهم تَصَوُّرِيًّا مما تَوَهَّموه علمًا؛ حيث تَطبَّع الجميعُ بما لم يتم التحقق منه؛ فامتلأتْ به دون تمحيصٍ؛ واقترَح ديكارت منهجًا يستطيع الفردُالمستجيب أن يَستخدِمه؛ لإعادة فحْص ما تطبَّع به، والإبقاء على ما يستحق البقاء، والتحرر مما لا ليس مؤهًّلًا بأن يُحتفَظ به. وجاء بيير بايل وأعلن جمهورية الآداب كما ألَّف (المعجم التاريخي النقدي) وهو عملٌ فكري مَجيد وبالغ التأثير. وجاء جون لوك فأعلن ضرورة التسامح والتعايش، وأكَّد أن الإنسان يولد دون تحديد؛ فيتحدَّد بثقافة البيئة؛ فالناس نتاجُ بيئاتهم. وجاء هيوم وأعلن هشاشة العقل البشري، وأكَّد فاعلية التكيف والتعود والتطبع. وجاء سبينوزا وأعلن ضرورة إصلاح العقل البشري. وجاء باسكال؛ فأكد اجتماع الأضداد في الإنسان؛ الحكمة والحماقة، والعظمة والتفاهة، وإنسان القطيع، وإنسان العبقرية الاستثنائية. وجاء مونتسكيو بِرُؤًى فلسفيةٍ عميقة. ٍ وحان عصر فلاسفة التنوير: فولتير وروسو وديدرووغيرهم وظهرتْ الموسوعةُ الكبرى على يد ديدرو وإسهام كل فلاسفة التنوير. وتَوَّج ذلك كلَّه ظهورُ كانط حيث نعى على الإنسان: ((قصورَه وعَجْزَه عن استخدام فهْمِه الخاص دون توجيه الآخرين)) ونادى كلَّ فردٍ نداءً مدَوِّيًّا: ((أُجرؤ على استخدام فهمك الخاص)) وجاء هيجل فأعاد القول بصراع الأضداد؛ وبواسطة هذا الصراع؛ تتغير الأفكار، وتتحول الأوضاع، وتتقدم الحضارة. وقامت الثورةُالأمريكية مُعتمدةً على فلسفة جون لوك، ومونتسكيو، وتوماس بين. ثم اندلعتْ الثورةُ الفرنسية؛ وكانت ذروةَ المد التنويري، فهزَّت أوروبا من الأعماق خصوصًا بعد أن أمسك نابليون بزمام الأمور ووضَعَحدًّا للفوضى الفظيعة التي أعقبت انفراط السلطة في فرنسا، فاسْتَعَر العنفُ. لكن نابليون أوقف العنفَ الداخلي ووجَّه الطاقة المتفجرة نحو الخارج. ولولا ظهور نابليون لكانت الثورةُ الفرنسية كارثةً. إن كل حملات التنوير كانت تَستهدِف زعزعةَ اليقين المغلق وتقويضَ تَوَهُّم المعرفة، ومحاولةَ استنفار العقل الفردي لكي يتحرر من الوصاية، وأن ينفك من تَوَهُّم المعرفة. لكن تلقائية تَوَهُّم المعرفة؛ تَستبقي الإنسانَ واهمًا مهما تلقى من تنوير؛ إن الأنساق الثقافية، وكذلك البنيات الذهنية للأفراد؛ لا تتأثر بالفلسفة، ولا بالعلوم الموضوعية خارج النطاق العملي. وتَظل الأفكارُ المضيئةُ، والعلومُالموضوعيةُ؛ مجرد وسائل وأدوات إرشادية؛ تَنتظر أحداثًا وقيادات حاسمة تحيلها إلى واقع ... 

 يؤكد روسو بأنه من طبيعة الإنسان أنه إذا كان لا يَملك معارفَ وقدرات؛ فإنه يتعالَم أي يتظاهر بأنه يَعْلَم. أما المعضلة الحقيقية؛ فهي ليست في التظاهر المتَعَمَّد بالمعرفة، بل في تلقائية تَوَهُّم المعرفة؛ ففي مقدمة (معجم اللسانيات) يشكو جورج رومان من ظاهرة التعالُم لكنه يرى أن المعضلة الكبرى هي تَوَهُّم المعرفة؛ فيقول: ((فإن الجميع مقتنعٌ عن خطأ بأن المعرفةَ الحدْسية، وحتى الفطرية؛ هي الشيء الأفضل قِسْمةً بين أشياء العالم)) لذلك تأفَّف العالم المبدع إمبرتو إيكو بعد ظهور الانترنت واندفاع الكل لاستخدام تويتر وفيسبوك مما أسماه هجمة الحمقى وغزو البلهاء. ومثلما أكد ديكارت بأن لا أحد يشكو من قصور عقله. بل كل الناس راضون عن عقولهم؛ لذلك ينبه ديكارت، بأن العقل؛ هو أعدل الأشياء قِسْمةً بين الناس. وهذا لا يَعني أن عقول الناس متماثلة، بل يَعني أن كل واحدٍلا يحس بقصور عقله، إنهم جميعًا يتوَهَّمون كمال عقولهم. ولأن العقل ليس إلا محتواه من المعرفة؛ فإن الكل يتَوَهَّمون أنهم يعرفون؛ فلدى كل فرد وَهْمٌ بأنه يعرف. إنه حدْسٌ تلقائيٌّ دائمُ الجاهزية. كما أنالتعليم بمختلف مراحله في كل العالم؛ لا يُصَحِّح للدارسين؛ هذا التصور التلقائي الخاطئ عن أنفسهم. بل يَتم إعطاء الدارسين معلومات عن الأشياء؛ عن الفيزياء والرياضيات والكيمياء والجغرافيا والتاريخ وغيرها. لكن التعليم، لا يُخبر الدارسين عن طبيعتهم الواهمة، فلا يُحرِّرهم من أعمقِ معضلةٍ بشرية؛ وهي تَوَهُّم المعرفة، وهو تَوَهُّمٌ يلازم كل إنسان إلى أن يَنتبِه له، وإلى أن يقاوِمه؛ بيقظةٍ دائمةٍ وانتباهٍ حاد؛ ليس هذا فقط بل إن التعليم في كل أو أكثر الأقطار يُعَمِّق في الدارسين هذا الوَهْم؛ بتأكيد وتقديس الأنساق الثقافية المتوارَثة التي تطبعوا بها، وبإعطاء المعلومات بأسلوبٍ جازمٍ يَستبعِد الشكَّ. إن التعليم في كل العالم لا يعالج سوى الجهل البسيط؛ وتأكيد البداهات التي لم تُمتحَن؛ فيُرَسِّخ الجهل المرَكَّب أي يُعَمِّق ويؤكد جَهْل الإنسان لجهله. وهو جهلٌ عميقٌوخفيٌّ وبنيوي لأن البنية الذهنية للفرد قد تَكَوَّنَتْ به ...

إن تقديم المعلومات للدارسين؛ هو أقلُّ المتطلبات أهميةً، ويمكن لهم الحصول على أية معلومات يهتمون بها اهتمامًا تلقائيًّا، أو تَدفعهم للبحث عنها حاجةٌ؛ فالمهم هو خلق الرغبة، وتكوين الاهتمام التلقائي، وغرس الإحساس بقيمة المعرفة، وقَبْل ذلك لابد من إيقاظ عقول الدارسين، لطبيعة التكيُّف التلقائي الذي تطبَّعتْ بهم عقولهم وتَكَوَّن به وجدانهم وولاءاتهم. لكن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فالمجتمع كله مبرمَج، والمعلمون قد استحكمتْ برمجتهم. إن العلم بطبيعة هذا التَّوَهُّم، وإدراكَ أولويته والعلمَ بخطورته؛ أهَمُّ من العلم بأشياء من السهل إدراكها متى توفَّر الاهتمام التلقائي؛ ومثلما يقول المؤرخ الأمريكي مايكل كامن في كتابه (الدستور في الثقافة الأمريكية): ((إن جهْلَ الناس؛ لابد من دراسته، والتعرُّف عليه، قبل دراسة معرفة الإنسان)) وقبْله أعلن الرئيس الأمريكي البروفيسور وودرو ولسون: ((يجب علينا أن نشنَّ حملةً ضد القُوى التي تَحَكَّمتْ بنا، وحَدَّدَتْ حياتنا، ووضَعَتْنا في قوالب جامدة)) ويقول عالم النفس الشهير إريك فروم: ((إن إدراك المرء لجهله، واعترافه بحيرته؛ يُشَكِّل بدايةَ الحكمة)) ويؤكد فرويد الدوافع التلقائية التي هي مصدر تفكير الإنسان وسلوكه فيقول: ((الناس يظنون أنهم يتكلمون بقرار حُرٍّ، مع أنهم لا يستطيعون مقاومة اندفاعهم للكلام؛ وتُرينا التجربةُ بوضوحٍ؛ أنه سواء العقل أم الإنسان؛ فإنهما يظنان أنهما حُران لهذا السبب الوحيد المتمثِّل بشعورهما بأفعالهما، وجهلهما بالأسباب التي تُحَتِّم عليهما فعلها)) ويقول: ((ليست الشهية إلا جوهر الإنسان نفسه، والطبيعة التي يَستمدُّ منها ما هو ضروري لبقائه؛ ويتحتَّم على الإنسان فِعْلُ ذلك)) ويضيف: ((ما من اختلافٍ بين الشهية والرغبة، إلا أن الرغبة متعلقة ببني الإنسان من حيث أنهم يشعرون بشهيتهم، ويُمْكِن تعريفها لهذا السبب هكذا: إن الرغبة هي الشهية مع الشعور بنفسها)) ويضيف: ((إننا لا نُجبر أنفسنا على شيء، فلا نريد ولا نشتهي ولا نرغب بشيء؛ لأننا نَحْكم بأنه جيد؛ بل على العكس؛ نحن نَحْكُم بأن الشيء جيدٌ لأننا نُجبر أنفسنا عليه، ونريده ونشتهيه ونرغب به)) إن معضلة الإنسان في كل زمان ومكان أن تصوُّره عن نفسه؛ كان وما يزال على مستوى العموم، وخارج الدوائر العلمية؛ هو تصوُّر خاطئ؛ وهذا الخطأ في التصور أَنتَج أوهامًا لا حصر لها ...  

        إن تَوَهُّم المعرفة يَحجب الجهل المركَّب العميق الخفي المتراكم في اللاشعور، إن التعليم في كل العالم؛ يُكَرِّس استمرار تَوَهُّم المعرفة، لأنه يَشغل الدارسين بمعلومات عن الأشياء، لكنه لا يهتم بخلخلة الركام الذي تختزنه ذواتهم، بل في الغالب يَعمل التعليم على تعميق وتأكيد ما تم التطبع به. لذلك فإن فيلسوف العلم الشهير باشلار ينتقد التعليم، ويؤكد على أنه: ((يجب أن تتكوَّن الروح العلمية ضد الطبيعة؛ ضد ما تمليه علينا الطبيعة من داخلنا، أو من خارجنا، ضد الانسياق الطبيعي)) فالعلم خروجٌ يَقِظٌوممنهَج ومنَظَّمٌ عن تلقائية الإنسان؛ إنه مضادٌّ لطبيعة الإنسان وعن تلقائية التوَهُّم. ولأن تَوَهُّم المعرفة؛ تلقائيٌّ، وذو جاهزية أوَّلية؛ فإنالفرد حتى لو انتبه واستيقظ؛ فإنه يعود للتلبُّس به؛ فيغشى عقلَالفرد ويتحكَّم به إذا غَفَل، إن توَهُّم المعرفة تلقائي وذو حضورٍ أوَّلي، إنه أصيلٌ في الطبيعة البشرية، إن كل السلبيات ذات جاهزية تلقائية ولا تتطلب أي جهد. أما الإيجابيات؛ فلا تحصل تلقائيًّا؛ فلكي تصعد أنت تحتاج إلى بذل جهدٍ. أما السقوط من شاهق؛ فلا يحتاج إلا الغفلة ونسيان الحذر. والجهل حاضرٌ حضورًا تلقائيًّا فلا تحتاج إلى بذل جهد لكي تبقى جاهلًا، بينما أن أيَّ تقدم في العلم والعمل لا يمكن أن يتحقق تلقائيًّا. إن الغالب على الناس أنهم لا ينتبهون لتلقائية وأولوية وأصالة السلبيات. إن كل السلبيات تلقائية الحضور وتلقائية الفاعلية. أما الإيجابيات فتتطلب انفصالا عن التلقائية ... 

إن معضلة الإنسان مع ذاته ومع الحياة ومع غيره؛ أنه لا يَعْلَم أنه لا يَعْلَم. بينما أن تَوَهُّم المعرفة، يُكَبِّله، وأن جَهْلَه لَجهْلِه يتحكَّم به، وأن الخطأ يترصَّده؛ فيقع فيه حتى مع التنبُّه طبقًا: ((لقانون مورفي الذي يؤكد أن الشيء الذي يُمْكِن أن يتعرَّض للخطأ؛ سيتعرَّض له فعلاً، إلا بثمنٍ باهظٍ من الحيطة الدائمة، والمجهود الكبير)) فإذا كانت مَصْيَدَةُ الخطأ بهذه الجاهزية دومًا رغم اليقظة الدائمة والمجهود المستمر؛ فكيف يكون الوضع إذا كان الناس بطبيعتهم يثقون ثقة تلقائية عمياء بأنماطهم الذهنية الثابتة التي هي في الغالب؛ قد تم التطبع بها تلقائيًّا ودون أية غربلةٍ أو تمحيص؟! إن الأصل في الإنسان أنه لا يملك قابلية الخروج عن الأنماط الذهنية؛ ومثلما أكَّد العالمُ ادوارد دي بونو في كتابه (تعليم التفكير): ((لا توجد لدينا آلية ذاتية من أجل التفكير بالمسارات المناظرة، فنحتاج لكي نقوم بهذا إلى إطارٍ خارجي؛ إذْ بدونه لا يستطيع العقلُ أن يتخلَّى بشكلٍ طبيعي عن مسار ليسلك مسارًا آخر)) ولأن الإنسان لا يحس بنقائصه، وأنه دائمًا يتوهَّم المعرفة، وأنه لا يَعْلَم أنه لا يَعْلَم؛ فإن المفكر الفرنسي تودوروف، يقترح على كل فرد أن يَتعرَّف على الكيفية التي يفكر بها عموم الناس، ليكون ذلك وسيلةً بأن يَتعرَّف على نقائصه. فيقول في كتابه (الأمل الذاكرة): ((تبدأ معرفةُ النفس البشرية؛ منذ اللحظة التي يَكتشف فيها أيُّإنسانٍ منا؛ إنسانًا آخر، يُشبهه في الظاهر، ولكنه مختلفٌ عنه تمامًا في الجوهر؛ فتسيطر عليه الرغبةُ في تفسير طبيعة هذا التشابه والاختلاف. وكلما تعمَّقَتْ معرفته بهوية الشخص الآخر؛ زاد ذلك في اكتشافه لنفسه؛ فيبدأ بالتمييز. وهذا تطوُّرٌ لا حدود له)) ومن البديهي أن تودوروف؛ يُدرك؛ أن الأفراد المؤهَّلين لمثل هذه الدراسةللآخرين، ومثل هذا الإدراك وهذه المقارنة؛ هم أفرادٌ غير عاديين مثل تودوروف نفسه ...

أما عموم المتعلمين فهم أساسًا يُجسِّدون المعضلةَ؛ فهم ليسوا مهيئين لمثل هذا الدراسة بعمقٍ يَسمح بالدراسة الموضوعية، والاستقصاء الدقيق، والتقييم النزيه، والمقارنة الأمينة العادلة؛ ففي استقصاءٍ دام ثلاثين عامًا؛ اكتشف عالمُ النفس الأمريكي دانيال كانمان أن الناس غير عقلانيين حتى في أمورِ المنافع والمصالح الاقتصادية؛ التي كان يُعتقَد من قبل أن الإنسان فيها يكون عقلانيًّا. لكن الحقيقة كانت صادمةً للكثيرين؛ فقد أظهرت الدراسة أن الإنسان ليس عقلانيًّا حتى في تلك السلوكيات التي يَهتم بها اهتمامًا شخصيًّا؛ فالإنسان كائنٌ مقلِّد. إن الناس يقلد بعضهم بعضًا حتى في الأمور التي كان يُظَنُّ أن الناس فيها يكونون عقلانيين، ومستقلي التفكير؛ هذا ما أثبته العلم فتمَّ مَنْحصاحب الدراسة دانيال كانمان جائزة نوبل في الاقتصاد رغم أنه من علماء النفس. وقد وضَع نتائجَ دراساته الاستقصائية، في كتابه (التفكير: البطيء والسريع) الذي تلقَّفه العالم فتمتْ ترجمته لمعظم اللغات. وقبل ذلك كان عالم النفس روبرت شيالديني قد أثبت انجراف الفرد مع المجموع، وشرَحَ ذلك في كتابه (التأثير) ثم في كتابه (قبل الإقناع) وأثبت ذلك غيرهما من علماء الانثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس. وكلها دلالات على أن الإنسان كائنٌ تلقائي. لكن لم يتَوَصَّل أحدٌ فيما أعلم إلى أن مفتاح الطبيعة البشرية؛ هو أن الإنسان كائنٌ تلقائي. إنه بهذه التلقائية يتطبَّع تلقائيًا بالنسق الثقافي الذي ينشأ فيه، وبنفس التلقائية تَنقل حواسه إلى دماغه ما هو سائدٌ في البيئة؛ فتتكَوَّن له أنماطٌ ذهنيةٌ ووجدانيةٌ تختلف عن أنماط كل الآخرين، وبثبات هذه الأنماط؛ ينقلب التعطش الفطري للمعرفة إلى وَهْمٍ دائمٍ أنه يعرف؛ فلا يُصغي للاستفادة من حكمة غيره، وإنما يبقى دائمًا يَنتظر أن يتاح له الكلام ليفيض على الجميع مما يتَوَهَّمه معرفةً أكيدةً، ورؤيةً صائبةً، وموقفًا حكيمًا ...  

       إن الأصل في كل فرد في أي مجتمع؛ أنه يتطبَّع تلقائيًّا بالنسق الثقافي الذي ينشأ فيه، ثم يتعزَّز هذا التطبُّع ويتأكد ويترسخ؛ بالتنشئة القصْدية. ومثلما يقول المبدع الفرنسي الحائز على جائزة نوبل في الأدب اندريه جيد في كتابه (قوت الأرض): ((إن شخصية الإنسان مُحَرَّفةٌ، وتاريخه هو تاريخ الحجج الباطلة والتزييفات)) ويضيف: ((الإنسانية تحب قوالبها؛ رغم أنها لا تستطيع أن تَكْبر مالم تَعْرِف كيف تتخلص من هذه القوالب)) ويقول: ((يُغمضون عيونهم عن الحقيقة، وإذا شاهدوها؛ فإنهم لا يُحْسنون الملاحظة والتأمل)) ويتحدث هارولد أندرسون عن تَوَقُّد أذهان الأطفال واندفاعهم التلقائي للجديد. لكن هذا الاندفاع ينطفئ بدخول المدرسة أو بتجاوُز سن الشغف التلقائي الذي ينطفئ بعد أن تتكوَّن البنية الذهنية القاعدية. يتساءل أندرسون: ((والسؤال الذي يَفرض نفسه بشدة هو: ما الذي يَعتري نمو هذه الطاقة الإنسانية الهائلة فيوقفها؟! هذا هو السؤال وهذه هي المعضلة)) يجيب الفيلسوف بول تيليش بقوله: ((إن الولع بالحقيقة؛ تُخْمده الأجوبة التي لها وزْن السلطة المسَلَّم بها)) فبعد ولادة الطفل وخلال السنوات الست الأولى تكون قابلياته مرنةً وذاتَ قابليةٍ مطواعةٍفتَتشَكَّل بالأسبق إليها؛ إنه قبل أن تتكَوَّن أنماطه الذهنية القاعدية؛يكون شديد التَّلَهُف للمعرفة ... 

أما بعد هذه السن فإن بنيته الذهنية القاعدية تكون شبه مستقرة؛ فتبدأ بشعورٍ واهمٍ بالامتلاء حيث يتكوَّن لديه حِسٌّ عامبالاكتفاء، ويصبح لديه بداهة تلقائية بأنه يعرف. ثم لأن الإنسان كائنٌ تلقائي؛ فإنه يكون نافرًا من التعليم القصدي، ونافرًا من الأمر والنهي لكنه يتعرض لها كلها رغمًا عنه، بما في ذلك التعليم في المدرسة حين يلتحق بها؛ فهو يتجرَّع ما يتم تلقينه له؛ تجرُّعًا كارهًافيتسبب ذلك في كراهية التعليم بشكلٍ عام، لكنه يضطر لمواصلته؛ لأن الأهل يُكرِهونه عليه، ثم هو يواصل التعليم لأن متطلبات العيش تقتضي ذلك. وبذلك ينغلق ذهنه؛ لأن أنماطه الذهنية المتكوِّنة؛تُوهِمه بأنه يَعْلَم، فيستمر لا يعلم أنه لا يعلم، لذلك تَجد أن كلَّ فردٍيكون له رأيٌ جازمٌ، وموقفٌ جاهز من كل شيْءٍ من دون أي بحث أو استقصاء، وهذا يلاحَظ على الكبار في كل نقاش يدور في أية جلسة للأصدقاء وغيرهم، فالكلُّ يتسابقون للكلام وبثقةٍ قاطعةٍ، ومن دون أي إدراك أنه يناقِش قضايا معقَّدة تتطلب الكثير من البحث والاستقصاء والتحقق، وأنه لا توجد إجاباتٌ قاطعةٌ في مثل هذه القضايا المعقدة. ولكنه يكون واثقًا لأنه لا يَعرف طبيعة أنماطه الذهنية والوجدانية، فيَجهَل جهْلَه، ولا يَعرف شيئًا عن مُلازَمة تَوَهُّمِالمعرفة له. ومثلما أكّد مؤلفا كتاب (الآلة-الإنسان) اللنبي وساروبتزبأن: ((المعطيات العلمية؛ قد اختنقت، بتصوراتٍ ذهنية؛ تَرتكز على النماذج البدائية، وقوةَ إثارة العواطف)) إن ما يتطبع به الإنسان تطبُّعًا ضمن أي نسقٍ ثقافي يتحكَّم بتفكيره وسلوكه دون أي إحساس منه بأنه يعيش أوهام المعرفة ...

إن تَوَهُّم المعرفة؛ هو بداهةٌ تلقائية؛ تنساب تلقائيًّا من دون أن يدور في خلد الشخص؛ أن يُخضِعه للرقابة والفحص والتحقُّق. لذلك يرى الفيلسوف الشهير هنري برغسون بأن التَّوَهُّم هو الصفة الأبرز في الإنسان؛ فالإنسان كما يقول برغسون: كائنٌ متَوَهِّمٌ. إن هذه معضلة بشرية عامة؛ فهي لا تتعلق بشخصٍ من دون غيره ولا بنسقٍ ثقافي من دون آخر. إن تَوَهُّم المعرفة؛ ليس آفةً طارئةً وإنما هو الأصل. ولكن لن ننتبه لذلك حتى نتذكَّر الخطوات المنهجية التي يتخذها العلم للتحقق من أية مسألة. إن الذي يَتبرمَج به الناس يَحتجب عن فاعلية العقل النقدي، الذي هو شرطُ العقل المعرفي. ومثلما يقول المفكر الفرنسي بيير كالام: ((لا شيء أفظع من التعوُّد؛ إنه يُحَوِّل العادةَ إلى بديهة)) ويقول البروفيسور الروسي يوري لوتمان: ((حيث لا يوجد أيُّ فَهْمٍ حقيقي على الإطلاق؛ يَظهر تَوَهُّم المعرفة)) ويقول ميكيل راسموس وزميله في كتابهما (لحظة الوضوح): ((إن معظم حياتنا لا يتولاها التفكير على الإطلاق، لكنها موَجَّهةٌ بالتعود)) ويضيفان أن ما يتم التعوُّد عليه: ((يَنسحب من دائرة اهتمامنا)) لأنه أصبح بداهةً؛ وهي كما يضيف المؤلفان:((تتحوَّل إلى خلفية كلما زاد استخدامنا لها. ونحن نغفل، وبطريقةٍ انسيابية جدا، إلى درجة أنه في أكثر الحالات؛ يكون سلوكُنا غيرَمرئي لنا؛ فالأُلفة تُشَكِّل كلَّ شيءٍ نَختبره في العالم)) فلا يتم اكتشاف ذلك إلا بالإفاقة من بداهة الغفلة، والانتقال إلى بداهة اليقظة. ولكن هذه الإفاقة نادرة في الناس ...

ينبه عالم الانثروبولوجيا الأمريكي كليفورد غيرتز في كتاب (تأويل الثقافة): ((أن أفضل طريقةٍ للنظر في الثقافة؛ هي أن الإنسان هو أكثر الحيوانات؛ اعتمادًا على آليات التحكم الآتية من خارجه، على برامجَ ثقافيةٍ لتنظيم سلوكاته)) ويضيف: ((أن التطورات الأخيرة، ضمن علم الأنثروبولوجيا، وفي علم الضبط والاتصال العصبي، ونظرية المعلوماتية، وعلم الأعصاب، وعلم الجينات الجزيئي؛ قد جعلتْ من الممكن صياغةَ هاتين الفكرتين بعبارات أكثر دقةً كما أمدَّتْهما بدعمٍ تجريبي إمبريقي غير مسبوق. ويَنتُج عن إعادة الصياغة هذه لمفهومِ الثقافة ولدورها في حياة الإنسان؛ تعريفٌ جديدٌ للإنسان؛ يركِّز على الآليات التي تؤدي إلى تقليص اتساع الطاقات الموروثة في الإنسان ولا محدوديتها في الإنجاز الفعلي الضيق الحدود)) ويوضح بأن كل إنسان يولد بقابليات مفتوحة قابلة بأن تتشكَّل بالأسبق إليها. فيقول: ((يؤول الأمر إلى الاستنتاج بأن إحدى الحقائق البارزة المتعلقة بنا؛ هي أننا نبدأ باستعداداتٍ طبيعيةٍ جِبِلية لدينا؛ بأن نعيش ألف نوع من أنواع الحياة، ولكن يَنتهي الأمرُ بنا لأن نعيش حياةً واحدةً محدودة)) فكل مولود قبل التشكُّل ليس أكثر من استعدادٍ وقابليةٍ مفتوحةٍ لأي تشكيل؛ لكن هذه القابلية المفتوحة متهيئة للتطبُّع بأي نسق تنشأ فيه؛ وبذلك تتحدَّد طبيعته التي كانت مفتوحة لما لا حصر له من الاحتمالات. فمثلما أن اندماج حيوان منوي واحد من رجل في بويضةٍ من امرأة من ملايين الحيوانات المنوية السابحة؛ يؤدي إلى تكوين فردٍ على النحو الذي هو عليه، وأنه لو كان الاندماج من نصيب حيوانٍ منوي آخر لكان شخصًا آخر؛ فكذلك شأن أي مولود؛ فهو يكون أمام احتمالات لا حصر لها، للنسق الذي يتطبَّع به؛ فيتحدَّد في السنوات الأولى من طفولته ...  

يضيف غيرتز: ((إن النظرة إلى الثقافة القائلة؛ بأنها آليةُ ضبطٍ؛تبدأ بالافتراض أن الفكر البشري؛ هو في الأساس اجتماعي وعلني- بأن موطنه الأساسي الطبيعي؛ هو فِناء المنزل والسوق وساحة البلدة. إن التفكير لا يتألَّف من أشياء تَحدُث في الرأس، وإنما تحركات وتبادلات لما يُسَمَّى حسب ج. ه. ميد، وآخرين بالرموز ذات المغزى- وهي في معظمها تتكوَّن من كلمات، إلا أنها تشمل أشياء أخرى مثل حركات اليد والرسوم والأصوات الموسيقية والآلات والأشياء الطبيعية)) ويضيف: ((يحتاج المرء إلى مصادر الرموز هذه لإنارة طريقه وتحديد موقعه واتجاهه في العالم)) إن الحيوانات تولد مكتملة. أما الإنسان فيولد متهيئًا لأن يكون على أي نحوٍ تصوغه به القوالب الثقافية الجاهزة من قَبْل وكما يقول غيرتز: ((فالبشر من دون الثقافة؛ لن يكونوا سوى مُسوخٍ غير قابلةٍ للتحقُّق، ليس لديهم سوى القليل من الغرائز النافعة، والأقل من العواطف المعروفة، ومن دون أي ذكاء)) ويضيف: ((بما أن جهازنا العصبي المركزي؛ نما في معظمه بالتفاعل مع الثقافة، فهو غير قادرٍ على توجيه سلوكنا أو تنظيم خبراتنا من دون التوجيه الذي تقدمه لنا أنظمة الرموز ذات المعنى)) ويضيف: ((في المحصلة النهائية؛ ما نحن إلا مخلوقات غير مكتملة، أو غير منتهية، ونحن نتمم أنفسنا من خلال أشكالٍ معينة من الثقافة)) لقد انكشفت طبيعة الدماغ؛ وانكشفت بهذا الانكشاف مرونة الدماغ وهشاشة البنية التي تُنتج التفكير وتُنتج العقل؛ فالعقل ما هو إلا محتوى الدماغ من المعارف والخبرات، إن دماغ الفرد يضم عددًا هائلا من الأنماط. إن العقلَ نشاطُ الدماغ وتفاعُلُه مع المثيرات. وتتنوع عقليات الأمم بتنوُّع الأنسان الثقافية، كما تتعدد العقول بتعدد الأفراد؛ فكل فردٍ هو عالَم قائمٌ بذاته؛ فالاختلافات تلقائية طبيعية، أما التقارب في المواقف والآراء وأنماط الفهم فيتطلب جهدًا منتظمًا وصادقًا ...    

ويوجد نقطةٌ أخرى لابد من إيضاحها؛ فمَن كان يتابع ما كنتُ أكتب منذ أكثر من ثلث قرن؛ يَعرف أنني كنت أتحدث عن ضرورة (تأسيس علم الجهل) للتفكيك النظري لتَوَهُّم المعرفة، ولكني منذ وقت ليس بالبعيد؛ فوجئتُ بمن يدعي أنه يوجد مؤلِّفٌ أمريكي اسمه نعوم روبرت بروكتر له كتابٌ عن علم الجهل، وقد بحثتُ في الانترنت وعند موزعي الكتب وفي المكتبات عن أي كتاب مترجَم بهذا الاسم؛ فلم أجد. فطلبتُ من ابني أن يبحث باللغة الإنجليزية فلم يجد؛ فتحوَّلنا للبحث عن أيِّ كتابٍ لهذا المؤلِّف؛ فوجدْنا له كتابين؛ وطلبناهما؛ وحين وصلا اتضح أن المؤلِّف قد شنَّ حملةً ضد شركات التبغ وشركات أخرى تَخدع المستهلكين وتُضللهم وأنها تَستعين ببعض العلماء وتَدفع مبالغ كبيرة لبث التجهيل باسم العلم، إن الكتاب يتحدث عن تضليلٍ مُتَعَمَّد متنوِّع تمارسه الشركاتُ وغيرها في الدعاية لمنتجاتها لحجب الأضرار وأنها تستعين ببعض العلماء لإعطاء دعايتها مصداقية؛ فهو يقول: ((حَجَبَ حفنةٌ من العلماء الحقيقةَ حول العديد من القضايا؛ من دخانِ التبغ إلى الاحترار الحراري)) ويتحدث أيضا عن حَجْبِ المعلومات: ((بوسائل لا تُعَدُّ ولا تُحصى)) فالكتاب الأول استهدف فَضْحَ الدعاية للتبغ ولبعض المنتجات الضارة. أما الكتاب الثاني فهو أيضا في نفس الاتجاه؛فهو بعنوان (هندسة الجهل) وهو امتدادٌ للكتاب الأول، ومع أني لا أعرف اللغة الإنجليزية، إلا أنه بواسطة الترجمة الآلية، ومعونة ابنيَّ حسين وعمر تَرجَمْنا المقدمة. حيث يَستهِلُّ المؤلف روبرت بروكترالمقدمة بقوله: ((نحن نعيش في عصر الجهل، ومن المهم أن نَفهم كيف أصبح هذا ولماذا. هَدَفُنا هنا هو استكشاف كيفية إنتاج الجهل أو الحفاظ عليه في بيئات متنوعة، من خلال آليات مثل الإهمال المتعمَّد أو غير المقصود، والسِّرِّية، والقمع، وتدمير الوثائق، وأشكال لا تُعَدُّ ولا تحصى)) ومن الواضح تمامًا أنه يتحدث عن التجهيل المتعمَّد ...

مما سبق يتضح أن روبرت بروكتر لم يتناول المعضلة التي تشغلني، وإنما هو مهتمٌّ بالتضليل وحَجْب الحقائق. وفي المقدمة التي تلقيتُها بترجمةٍ آلية يؤكد أيضا أن هدفه: ((دراسة صناعة الجهل)) أي العمل على تضليل الناس وتجهيلهم وحَجْب الحقائق عنهم؛ من أجل الانتفاع بجهلهم في ترويج الذات، أو ترويج البضائع والدعاية لها. ويقول: ((على مَرِّ الأزمنة، تَصارَع السلاطينُوالساسةُ، على حق امتلاك المعرفة، ومصادِر المعلومة؛ فالمعرفة قُوَّةٌوسلاحٌ، بشكلٍ يوازي المال)) وبهذا يتضح أن المؤلف يتحدث عن موضوعٍ مختلف؛ فهو يتحدث عن دعاية الشركات للتبغ وغيره من المنتجات الضارة، أو عن الصراعات السياسية على امتلاك المعرفة، ومحاولة احتكار مصادر المعلومات، ونحو ذلك مما هو مألوف. لقد تناول وسائل التجهيل والتضليل، وحَجْب المعلومات الصحيحة والإيهام بعكسها. وهذا ليس جديدًا وإن كان من المهم جدا كشْفه،وفضْح القائمين عليه، والمروجين له، وكل من يُسْهِم في تضليل الناس، وخُداعهم، وتَجهيلهم. ولأني منذ أكثر من ثلث قرن؛ أناديبكل الوسائل التي أتيحت لي؛ بالعمل الجماعي الأممي لتحرير العقل البشري في الغرب، والشرق، وفي كل مكان من تَوَهُّم المعرفة؛ ومن الجهل النَّسَقي الجماعي المتوارَث؛ الذي تتطبَّع به أجيال الأمم منذ أقدم العصور وما يزال التطبع مهيمنًا على العقل البشريممتدًّا عَبر التوارُث التلقائي الحتمي؛ مثلما كان منذ أزمانٍ موغلةٍفي القِدَم؛ فكلُّ جيلٍ من أيةِ أمةٍ؛ يتطبَّع بما تطبع به الجيل الذي قبله، بتتابعٍ وانسيابٍ تلقائي حتمي، لذلك فقد كان يَسُرني لو كان الكتاب يتصدَّى لنفس المعضلة التي كانت وما زالت تشغلني؛ إن المجال يحتاج إلى جهودٍ فكريةٍ وعلمية وأدبية وإعلامية متضافرة لكنه كما يرى القارئ يتناول موضوعًا مختلفًا. إن ما أدعو إليه؛ هو العمل بجهودٍ عالمية؛ لتحرير العقل البشري من استمرار تَحَكُّم الأنساق الثقافية المتوارثة بالعقل البشري، واستمرار جهل الناس بأن كل فرد تتحكم به أنماطٌ ذهنية تختلف عن أنماط أي فرد آخر، وأن هذا يعني أن الاختلاف في الآراء والمواقف؛ هو الموقف الطبيعي، أما التقارب في الرؤى والمواقف؛ فيتطلَّب جهدًا يتحقق به تبادُل التَّفَهُّم ومحاولة كل طرف أن يضع نفسه مكان الآخر ليكون أكثر قابلية للإدراك الموضوعي بقدر ما تسمح به الطبيعة البشرية؛ فما كتب عنهروبرت بروكتر؛ يختلف عما تناولته. لقد كَتَبَ عن التضليل والتجهيل وهذا موضوع مطروق بكل اللغات ويوجد باللغة العربية كُتُبٌ كثيرة منها عل سبيل المثال كتاب (تزييف الوعي: أسلحة التضليل الشامل) لصلاح الدين حافظ. وأمثاله كثير في اللغة العربية وفي كل اللغات...                    

وقبل ذلك وبعده؛ فإن مشروعي الفكري؛ يتأسَّس على نظريةٍأساسية لأني قد تَوَصَّلتُ إلى أن: (الإنسان كائنٌ تلقائيٌّ) ويتفرَّع عنها نظرياتٌ أخرى؛ الأولى عن عوامل التغيير الاجتماعي وقد تناولتُ هذا الجانب في كتابي (الريادة والاستجابة) الذي يقدِّم نظريةً في فلسفة التاريخ وفي الفلسفة الاجتماعية. وسوف أعود إليه في كتاب آخر يحمل عنوان (مشاعل الفكر وقادة الفعل) أما النظرية الفرعية الثانية؛ فهي عن التعلُّم والتعليم، والإبداع ومهارات الأداء، وقد تناولتُها مَبْدئيًّا في كتابي (عبقرية الاهتمام التلقائي)وعنوانه الفرعي يُلَخِّص مضمونه وهو: ((التعَلُّم اضطرارًا مضادٌّ لطبيعة الإنسان التلقائية)) كما قَدَّمتُ نظريةً فرعيةً ثالثةً؛ عن (تلقائية رَفْضِ المغاير) ومحاربة المبدعين بوصفهم منشقين ومهرطقين ومتمردين وقد أثبتُ ذلك بوقائع متواترة. كما قَدَّمْتُ نظريةً رابعةً عن خصوصية الأفراد الاستثنائيين؛ بانفصالهم الفكري التلقائي عن كل الأنساق الثقافية؛ حيث يفكرون ويتحركون ويعملون عكس كل التيارات العامة الجارية؛ حيث أنهم ليسوا نتاجًا لأي نسق ثقافي، ولا امتدادًا لأيٍّ منها، فهؤلاء الأفراد غير قياسيين؛ إنهم استثنائيون. ونظرية فرعية خامسة عن تلقائية الانسداد الذهني بعد التطبُّع الأوَّلي ...  

وسوف يتوالى صدور المشروع في منظومة كتُب ينتظمهاعنوانٌ واحدٌ هو (تأسيس علم الجهل لتحرير العقل) كما تنتظمهانظريةٌ رئيسيةٌ واحدةٌ هي (الإنسان كائنٌ تلقائي) تتفرَّع منها نظرياتٌ أخرى. ذَكَرْتُ بعضها. لكن هل تَصل الأفكار إلى الناس بالوضوح الذي تَجَلَّى لي، وبشكلٍ يقترب مما حاولتُ إيصاله؟! إنما يجب الانتباه له هو أن أي مشروع فكري يكون في الغالب نتاجُعمرٍ بأكمله؛ بينما من يقوم بتقييمه والحكم عليه؛ قد لا يكون فَكَّر فيه سوى ساعات، وربما لم يقرأ منه سوى لمحات متقطعة. ثم إنه ما من شك بأن كل قارئ لأي كتاب أو أي نص؛ سيَخْرج بفهمٍ يختلف به ليس فقط عن كاتب النص وإنما عما خَرج به الآخرين الذين قرأوه؛ وهي حقيقة معروفة؛ نوقِشَتْ في علم النفس، وفي الفلسفة، وفي الدراسات الفلسفية، وفي الأدب؛ يقول البروفيسور بول آرمسترونجفي كتابٍ يحمل عنوان (القراءات المتصارعة: التنوع والمصداقية في التأويل) وإيحاءات العنوان وحْدها تكاد تكفي لبيان تنوُّع وتبايُن فُهُوم الناس لأي نص. وفيه يؤكد: ((أن المؤلف لا يمتلك سلطةً كاملةً على المعاني التي يمكن أن تُكتَشَف في أعماله، ولا يستطيع تَوَقُّعها، أو تَوَقُّع الطرق التي يمكن أن تُستخدَم بها هذه الأعمال)) ويضيف: ((لن يتاح للأعمال الفنية، أو الفلسفية؛ أو الأعمال من مختلف الأجناس؛ الأدبية وغير الأدبية؛ أن تَبقى إلا إذا ظلَّتْ مفتوحةً أمام التَغَيُّرات في الطريقة التي تُفهَم بها، وتُستخدَم على نحوٍ يتجاوز ما يمكن أن يتخيَّل مؤلفوها أو يقصدوا إليه)) ولكنه يؤكد أيضا أنه: ((يوجد إمكانية لتنوُّعٍ لا حدود له في التأويل، لكن اختبارات المصداقية؛ تبقى قادرةً على الحكم بأن بعض القراءات أكثر إقناعًا من سواها)) ويتساءل: ((هل يستطيع أيُّ تأويلٍ الادِّعاء أنه الأصح؟!)) وينبه إلى: ((أن المؤولين يَحملون افتراضات مسبقة متناقضة)) ويضيف: ((ليس في وُسعِ مؤولٍ واحد أن يَجمع كلَّ الطرق المختلفة التي يُمكن أن يستوعَب العمل بها استيعابًا مشروعًا)) وينبه إلى أن التأويل نصٌّ تابع وليس مُنشئًا ولا مؤسِّسًا. ويشير إلى أنه يوجد: ((نَظْرةٌ واسعة الانتشار؛ ترى أن الفهم الأدبي؛ حَدْسيٌّ وذاتيُّ، وهو ما يترتب عليه الاعتقاد أن نتائجه يتعذر البرهنةُ عليها)) لذلك يؤكد نتشه بأنه: ((لا وجود لوقائع، هنالك فقط تأويلات)) وفي كتاب (التأويل: سبيلاً إلى الترجمة) يؤكد المؤلفان دانيكا سيلسكوفيتش. وماريا لودورير على: ((أن كل إدراك؛ يمرُّ عَبْر مخطَّطٍ تأويليٍّ؛ لأنه تمثيلٌ لحقيقةِ المدرِك وفَهْمِه)) بل يأتي التأكيد على أن: ((عدم فَهْمِ المعنى)) قد: ((يكون صارخًا)) وإذا كان عدم الفهم قد يكون صارخًا حتى في الترجمة، حيث يكون المترجِم قد قرأ النص بعناية وكرَّر قراءته قبل الترجمة وأثناءها؛ فماذا نتوقع من قراءةٍ قد لا تتجاوز التصفُّح العابر؟! أي أن القارئ يُصدر حكمًا انطباعيًّا على عملٍ قد يكون قد استغرق عُمْرَ كاتبه. لكن ليس أمام أي مؤلِّفٍ أو كاتبٍ إلا أن يتوقَّع ذلك، وأن يَعتبره سلوكًا طبيعيًّا شائعًا. فكل فرد من الناس تختلف اهتماماته عن غيره؛ وبقدر اختلاف الاهتمامات؛ تتغير أنماط الفهم. فكل قارئ هو عالَمٌ مختلفٌ عن كل الآخرين. إنه يَنظر إلى العالَم ويَقرأ النصوصَ ببنيةٍ ذهنيةٍ ووجدانية متَكَوِّنةٍ قبل قراءة النص، فهو يتعامل مع النصوص بأنماط ذهنية ووجدانية؛ تختلف عن أنماط منشئ النص وعن القراءات الأخرى ...

إن عملاً واسعًا متعدد الأبعاد؛ يتناول القضايا الكبرى للإنسان والإنسانية، أفنى فيه كاتبه عمره لا يصح الحكم عليه بشكلٍ انطباعي؛ لذلك يؤكد الفيلسوف مارتن هايدجر على ضرورة التعمُّق بتعاطف أما من دون ذلك: ((فيمتنع على الباحث أيًّا كانت قدرته؛ أن يَنفذ إلى الشخصية التي يود أن يتعرَّف إليها، أو أن يَفهم الموضوع الذي يريد أن يعالجه)) فإذا كان هذا شأنُ من قرأ فعلاً، فماذا عمن يَحكم دون أن يقرأ؟! ومثلما يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبرزفي كتابه (مدخل إلى الفلسفة): ((من أجل الفهم الطيب يقتضي أن يتعمَّق المرءُ المادةَ، وأن يرتبط بمفهومِ المعنى الذي يَقصده الكاتب)) ويضيف: ((إن القراءة تقتضي أوَّلاً موقفًا أساسيًّا ناجمًا عن الثقة والتعاطف اللذين يشعر بهما القارئ نحو الكاتب وموضوعه، فيجب أن نقرأ أوَّلاً كما لو كان ما في النص صحيحًا. وعندما أتشبَّع تمامًا بما أقرأ وأتمثَّل الفكرَ وأَخلُص منه؛ عند ذلك فقط يمكن أن يبدأ نقد المشروع)) ويؤكد على ضرورة التعمُّق بتعاطف أيضا الفيلسوف إميل بوترو: ((لفهم الآثار فهمًا لا من الخارج بل من الداخل؛ فَيَنتُج عن ذلك الفهم؛ إحساسٌ بأن بيننا وبين المؤلف اتصالاً روحيًّا وطيدًا)) ويوضح عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه (مسائل في علم الاجتماع): أنه يتوقع مسبقًا القراءات المغلوطة وأنه يحتاط لها، لكن ذلك لا يُجدي؛ فيقول ((أخشى الكثير من القراءات المغلوطة لما أكتب؛ فأنا أحاول مسبقًا أن أثبِّط عزيمة القراءات المغلوطة لأنني أتوقعها قبل أن تَحدُث، لكن التحذير لا ينتبه إليه إلا أولئك الذين ليسوا بحاجة له. ولا يَحتفظ الأشخاص من تحليلٍ معقَّدٍ ما، إلا بالجانب الأقل إزعاجًا لهم)) ويؤكد البروفيسور بيير بايارد في كتابه (ماذا لو غَيَّرَتْ الأعمال الإبداعية مؤلفيها): ((بأن اللاشعور يلعب دورًا حاسمًا في تَلَقِّينا، وبأن النشاط التخيلي؛ قُوام العلاقة التي نقيمها مع الأعمال الإبداعية)) من المعروف أنه ما من مؤلف إلا وقد تَعَرَّض لمختلف التأويلات المتضاربة ولسوء الفهم. وعلى سبيل المثال فإن ستيف فولر قد ألَّف كتابًا عن (توماس كون وكارل بوبر) وهما من أشهر فلاسفة العلم ويقول بأن ((كُلاًّ منهما تَعَرَّض لسوء فهمٍ واسع النطاق)) لذلك قيل: مَن ألَّف فقد استهدف ...

ربما أن بعض من يقومون بتقييم الأعمال الفكرية أو الإبداعية؛ لا يُدركون أنهم يُصدِرون أحكامًا متسرعة جائرة، وذات نتائج تدميرية، ربما دون قصْدٍ لكنهم يفعلون ذلك بدون أي تردد على عملٍفكريٍّ أو عملٍ إبداعي؛ قد يكون استغرق عُمْرَ الكاتب كله؛ ومن هنا نجد ذلك الامتعاض الشديد الذي أبداه المفكر الكبير محمد عابد الجابري من النقد الذي وجَّهه إليه المفكر جورج طرابيشي. رغم أن الجابري لم يبدأ بمشروعه الفكري من رؤيةٍ متكوِّنة مسبقًا. وإنما بدأ بفكرةٍ عن (تكوين العقل العربي) ثم أثناء الكتابة؛ طرأت فكرةُ(بنية العقل العربي) ثم استجاب لاقتراح أن يَكتُب عن (العقل السياسي العربي) ثم استجاب أيضا لاقتراح أن يَكتُب عن (العقل الأخلاقي العربي) وقد صرَّح هو بذلك. وهذا يؤكد أنه لم يبدأ بمشروعه عن تصور كلي. وإنما نمت الأفكار أثناء العمل. وهذه الظاهرة نجدها عند مفكرين آخرين؛ فجورج طرابيشي نفسه؛ تَغَيَّر اتجاهُ فكره وجهده بقراءته لفكر الجابري؛ أما قبل ذلك فقد كان خطَّط لإنجاز مشروعٍ معجمي شامل عن الفكر البشري بدأه بكتابه (معجم الفلاسفة) وأعلن أنه بصدد إصدار (معجم المؤلفات الفلسفية) و(معجم علم الإنسانيات) و(معجم المؤلفات في العلوم الإنسانية) و(معجم الروائيين) و(معجم الروايات) وقد ألغى هذا الاتجاه بانشغاله بنقد الجابري. وهذه خسارة كبيرة؛ فالمشروع الأول لو أنجزه لمثَّل شبكةً من الجسور العظيمة للتواصل مع الفكر والإبداع العالمي. ومثل ذلك يقال عن فوكو ياما فمشروعه طرأ على ذهنه بعد انهيار الإتحاد السوفييتي وانتهاء منظومة حلف وارسو؛ فقد بدأه بمقالٍ عن (نهاية التاريخ) لكن المقال أثار نقاشًا واسعًا جعله يؤمن بأهمية الانشغال به؛ فأصدر عددًا من الكتب. ومثله صمويل هنتنجتون؛ فقد كتب مقالا يتنبأ فيه بعد مفاجآت انهيارات المعسكر الشيوعي؛ أن العالم سيشهد صراعًا للحضارات، فقوبل المقال بنقاشٍ واسعٍ أدَّى إلى أنه استغرق في نفس الاتجاه فأصدر عددًامن الكتب، تتناول الأوضاع الثقافية في العالم واختلافاتها البنيوية، وصراعاتها المحتملة. وهذه الظاهرة ملحوظةٌ في كل عمل بشري ...          

 إن الذهنيات تختلف على مستوى الأنساق الثقافية، وعلى مستوى الأفراد، فأية قراءة لأي عملٍ فكريٍّ أو إبداعيٍّ في أي مجال؛ لا يمثِّل سوى فَهْمِ الشخص الذي قام بالقراءة، وفي الغالب لن يكون سوى مسحٍ سطحي. إلا بوجود تقارب في الاهتمامات، والخلفية،والرؤية. لذلك يَلزَم الدقة والاستقصاء والتروي؛ ومثلما يقول: ((جمعان بن عبدالكريم في كتابه (إشكالات النص): ((إن اغلب اتجاهات تحليل الخطاب السائدة في الغرب؛ تميل إلى دراسة المرامي البعيدة للكلام، أو النص؛ من خلال وسائل متعددة)) وهذا يعني أن على قارئ النص أن يَستخدِم وسائل متعددة لكي يستكشف آفاق النص. كما يؤكد مؤلف إشكالات النص: ((أن عملية إنتاج النص هي عمليةٌ معقدَّة، ولها علاقة وثيقة بفهم النص)) إن كل فَهْمٍ لابد أن يكون نتاجَ اهتمامٍ حقيقي بالتفهُّم لأبعاد النص والتعمُّق لإدراك المرتكزات النظرية التي يتأسس عليها، وينبثق منها، والنتائج التي يستهدفها النص، ويسعى إليها. لكن من المعلوم أن ما يجب أن يكون ليس ما هو كائن. إن أي باحث يريد تقييم أي عملٍفكريٍّ لآخر؛ فهو يتحدث عن موقفه من الاتجاه الذي يمثله النص، وعن فهمه هو لفكر هذا الآخر؛ وليس عن فكرِ الآخر كما أنتجَه فعلا وكما يحاول إيصاله لغيره؛ إن الدارس لأفكار غيره؛ يتلقاها حتمًا بمرآةِ مرجعيةٍ مختلفة؛ من خلال موقفه في الوجود وخلفيته الاجتماعية والمعرفية، وتَخَصُّصه الأكاديمي، وانوع اهتماماته،وعلاقاته بغيره ممن لهم مواقف مسبقة من الاتجاه الذي يمثله النص، أو من صاحب النص. وكذلك الحسابات الاجتماعية للدارس وتَوَجُّساته، وكل الهواجس التي قد لا تخطر على البال؛ لكنها مؤثِّرة أبلغ التأثير في التلقي؛ قبولًا أو نفورًا، وفي اتجاه التقييم ومساره؛ سلبًا أو إيجابًا. ويَعرف من لهم إلمامٌ بقضايا الإبداع وقضايا النقد، أن عملًا إبداعيًا واحدًا يوصف بأعلى النعوت، من أحد النقاد، كما يوصف بأحط الأوصاف، من ناقدٍ آخر. مثال ذلك ما قيل عن نقد تشومسكي لنظرية سكينر السلوكية؛ فأحَدُ الدارسين يَصِفُنقد تشومسكي بأنه: ((تفنيدٌ نهائيٌّ لأطروحات سكينر، والمدرسة السلوكية بشكلٍ عام)) وبالمقابل نجد أن دارسًا آخر يؤكد أن: ((معظم انتقادات تشومسكي؛ تَقَع بعيدًا تمامًا عن مشروع سكينر)) فالدارس لعملِ غيره يكون منفصلًا عن هذا العمل فمن الصعب أن يلتحم به، وأن ينفذ إلى أعماقه، إلا إذا صادف أن لديه ذات الاهتمامات في نفس المجال؛ هنا فقط يكون الالتقاء والنفاذ والتمثُّل. إن الناس يتبادلون المعلومات أما الأفكار فإن لكل فردٍ أفكارٌ وطريقةٌ مغايرةٌ لكل الآخرين. إن اختلافات الأفراد في التفكير أشد من اختلافاتهم في الملامح. فإذا كان كل فرد له ملامح جسدية تميُّزه عن غيره؛ فإن اختلافات التفكير أشد من ذلك بما يتخطى أيَّ تحديد ...

    يوجد اختلافات عميقة، وقد تكون بنيوية بين كل فرد وآخر؛ لذلك فإن الغالب على أي تقييم؛ أنه يتسم بالذاتية؛ وهو في الغالب ليس أكثر من انطباعات يكون الدارس أو القارئ؛ متهيئًا لها قبل أن يبدأ القراءة. وقد أدرك الفلاسفة هذه المعضلة؛ فقد أكَّد هيجل في آخر حياته أنه لم يَفهم فلسفته سوى واحد. ثم تَدارَك وقال وحتى هذا الواحد لم يفهمها كما أرادها هيجل تمامًا. وشوبنهاور في مستهل كتابه (العالم: إرادةً وتصوُّرًا) نَبَّه إلى أنه من أجل إبلاغ فكرة واحدة كان بإمكانه أن يُعَبِّر عنها ببضع كلمات. لكني كما يقولشوبنهاور: مضطرٌّ أن أشرحها في مجلد ومع ذلك لن يفهما أحد. وهذا الاختلاف في التَّلَقِّي قد يؤدي إلى إثراء النص أكثر مما فيه، ولكنه قد يقف خارج النص، وهذا التباين في التلقي، هو بعض ما قَصَدَه رولان بارت في مقولة موت المؤلف. أما علم النفس؛ فهو يفسِّر ذلك بالاختلافات الحتمية للتلقي تَبَعًا لاختلاف الأنماط الذهنية بين فرد وآخر؛ فمضمون ما يُكتَب؛ يصل لكل قارئ أو دارس مختلفًا عن غيره. إن الناس يتبادلون المعلومات لكن كل شخص يفسرها حسب أنماطه الذهنية وميوله واهتماماته ومواقفه ورُآه. وعلى سبيل المثال فإن مدارس واتجاهات علم النفس متعددة؛ وليست هذه الاختلافات الحادة ناتجة عن اختلاف في المعلومات بل في تفسير المعلومات نفسها. ومثل ذلك يقال عن كل الاختلافات التي تعج بها الدنيا،وتملأ أرفف المكتبات. من السهل أن يتبادل الناس المعلومات لكن كُلًّا منهم سيفسرها حسب أنماطه الذهنية والوجدانية المختلفة عن أنماط كل الآخرين؛ فالأفكار لا يمكن تبادُلها كما هي تمامًا بل يتلقاها كل قارئ بشكلٍ مختلفٍ عن غيره. والإشكال الآخَر هو أن الناس،سواء المتلقِّين أو الذين يَتلقَّون قراءةَ هؤلاء المتلقين؛ لا يضعون ذلك باعتبارهم. إن الناس لا يَشُكُّون في أنهم يتلقون من الآخرين برؤيةٍموضوعيةٍ مفتوحةٍ ولكن الواقع غير ذلك؛ لذلك قيل بحق: لا يوجد قراءة بريئة. إن التواصل بين البشر، ينطوي على مفارقات لا يمكن تحاشيها. لذلك كان آينشتاين يقول ليس الغريب أن يختلف الناس، بل الغريب أن يَفْهَم بعضهم بعضًا. وجاءت الاكتشافات الأخيرة لطبيعة الدماغ والتعرف على أجزائه ووظائفه وآليات نشاطه، وارتباط هذا النشاط بالغدد الصماء وفاعلية نقص أو زيادة تدفُّق الهرمونات؛ جاءت كلُّ هذه وغيرها لتؤكد تلقائية الاختلاف ...

 لذلك رأيت إيضاح بعض النقاط:

• إن تأسيس علم الجهل يستهدف تحرير العقل البشري من الأنساق الثقافية ومن الأنماط الذهنية والوجدانية التي تطبَّع بها كل فرد بشكلٍ تلقائي أوَّلاً ثم قصدًا كتعزيز لما هو مستقر، ونفيٍ لما يتعارض معها، ليس هذا فقط بل يبقى تَوَهُّم المعرفةملازِمًا لكل فرد؛ حيث تُوهِمُه أنساقه الذهنية بأنه يعرف دون أن يكون قد أهَّل نفسه بهذه المعرفة المتوهَّمة.

• إن العقل المقصود هنا هو العقل البشري عموما وليس العقل العربي؛ فاستمرار هيمنة الأنساق الثقافية على كل الأمم، واختلافاتها النوعية، واختلاف أنماط كل فرد عن أنماط كل الآخرين، وتَوَهُّم كل فرد دائمًا بأنه يعرف؛ هي معضلات بشرية تلقائية وحتمية؛ مزمنة ومستعصية.  

• إن تَوَهُّم المعرفة ليس حالةً فرديةً استثنائية، وإنما الأصل في الإنسان أنه لا يَعْلَم أنه لا يَعْلَم.

• إن التطبع التلقائي وتَوَهُّم المعرفة؛ كان وما يزال هو المعضلة البشرية الكبرى.

• إن التعليم في كل العالم قد استهدف ترسيخ الأنساق الثقافية وتخريج خَدَميين في مختلف المجالات.

• إن حلقات الجهل المركب؛ لا تتعارض مع اكتساب كفايات تخصصية عالية ودقيقة ومهارات عملية متقنة؛ فأنماط الذهن تتجاور فيها الفكرة الصحيحة مع الوهم دون تبادُل التأثير ...

• إن الإنسان لا يولد بعقلٍ جاهز وإنما يولد بقابليات فارغة مفتوحة متعطشة للمثيرات.

• إن دماغ كل مولود يملك آليات لمعالجة ما تنقله له الحواس؛ حيث يعالجها بالفرز والتصنيف والتنميط والنمذجة والتثبيت؛ لتصبح هذه البنية الذهنية أساسًا لكل ما يتلقاه فيما بعد. 

• إن القابليات يحتلها الأسبق؛ فعقل كل فرد يكَوِّنه ويحتله ويتحكم به الأسبق إليه.

• وبذلك يُعْلَم بأن عقل كل إنسان في كل العالم في الماضي والحاضر؛ يكون مختطَفًا ومُحَدَّد الاتجاه والمسار قبل بزوغ وعيه.

• إن دماغ الإنسان بعد الولادة لا يَملِك آليةً للتمييز بين الحقيقة والوهم، ولا بين الواقع والخيال، ولا بين الخطأ والصواب.

• إن الأنماط الذهنية والوجدانية التي تتكوَّن أوَّلًا للفرد؛ تتحكم بما يتلقاه بعد ذلك؛ تعزيزًا لها؛ ونَفْيًا للمتعارض معها؛ فأنماطه الذهنية والوجدانية هي معياره للقبول أو الرفض.

• إن ما يتلقاه الدماغُ بعد أن يكبر الشخص؛ مما هو محايد؛ وغير معزِّز للأنماط ولا متعارض معها؛ يَبني الدماغُ بها أنماطًا معرفيةً جديدة؛ غير وجدانية. حيث لا يكون الشخص مرتبطًا بها وجدانيًّا كما هي حال ما يتلقاه الدارسون في المدارس والجامعات من معارف وعلوم.

• إن معايير التمييز لكل فرد في العالم بغض النظر عن انتمائه؛ تتحدَّد بما تنقله حواسه إلى دماغه من البيئة الطبيعية ومن النسق الثقافي السائد؛ فهي ليست معايير علمية ولا هي معايير موضوعية، وإنما هي معايير حدَّدها النسقُ الثقافي السائد. ومعلومٌ أن لكل أمة نسقٌ ثقافي يختلف عن كل الأنساق الثقافية الأخرى؛ وبهذا فإن المعايير تختلف باختلاف الأنساق. أما المعايير الموضوعية؛ فهي المعايير العلمية التي لا تَنتمي لأي نسق ثقافي. 

• إن الأصل في رؤية الفرد التلقائية لأي شيء؛ هي رؤيةٌ غيرُموضوعية؛ لأنه يتلقاها، بمعايير ذاتية.

إن الرؤية أو التقييم الموضوعي ليس تلقائيًّا. وإنما يتطلب جهدًا ويقظةً وتحرُّرًا وإدراكًا لتلقائية الذاتية، ووعيًا بأن الموضوعية عملٌ من أعمال الفاعلية النقدية، في هذه الحالة فقط قد يقترب الشخص من الموضوعية؛ مع ما يصاحب ذلك من فَجَوات هي من لوازمِ رؤيةِوموقفِ الشخصِ من الآخرين.

• إن النمط أو التصور الأسبق يتحكم بالعقل؛ فيتَعزَّز الأسبقُويُرفَض المغايرُ، أما الطارئ فيضاف له نمطٌ جديد إذا لم يكن معزِّزًا ولا متعارضًا، أو يتم حذفه لتخفيف أعباء الدماغ، حسب الآليات التلقائية.

• إن نشاط دماغ أي فرد محكومٌ تلقائيًّا بمبدأ الاقتصاد في الجهد، فالطاقة المتاحة للدماغ محدَّدة، ووظيفة الدماغ الأساسية هي المحافظة على حياة الفرد، لذلك فإن طبيعة الدماغ؛ تجعله يميل بشكلٍ تلقائي للاقتصاد في الجهد؛ تجنُّبًا للإجهاد، وضمانًا لسرعة وقوة الاستجابة؛ فيستبعد ويَحذف ما لا يراه ضروريًا؛ ويُغَلِّف ما يتكرر بمادة المايلين ليجعله ينساب تلقائيًا كعادة مستقرة، ويحيل إلى المخيخ؛ ما يَرسخ من العادات؛ ليُعفي الوعي ويخفف العبء عن مراكز الدماغ العليا إلى غير ذلك من الآليات التي تقوم على مبدأ الاقتصاد في الجهد، لضمان فورية الاستجابة، وتجنُّب الإجهاد. وبقدر ما لهذه الآليات من إيجابيات فإن لها أيضا سلبيات.    

• إن العقل البشري قِوامه الأنماط الذهنية والانفعالية، التي تَكَوَّنت لكل فرد تلقائيًّا بعد ولادته؛ بما نقلته حواسه إلى دماغه.

• إن الأنماطَ منفصلٌ بعضها عن بعض فأنماط التعليم لها أنماط منفصلة عن الأنماط النسقية. وبينهما اختلافٌ نوعي؛ فما هو متكوِّنٌ نَسَقِيًّا يكون من النوع المعياري، القِيَمِي، ويكون الأساس فيه هو الفاعلية الوجدانية، أما المعارف التعليمية فهي ذات محتوًى وطبيعة معرفية.   

• إن التعليم والعلوم عمومًا لم تؤثر في الأنساق الثقافية لأية أمة لأن العلم يختلف نوعيا عن الأنساق. إن الأنساق الثقافية تؤثِّر ولا تتأثر فهي الأصل في أية بنية ذهنية.   

• ولأن الأنساق الثقافية ذات قِوام معياري قِيَمي وليس معرفيًّا؛فلا تتأثر بالعلوم ولا بالأفكار الفلسفية. لذلك اقتصرتْ فاعلية الأفكار والعلوم على النواحي العملية والتنظيمية؛ فالأفراد يعملون بمهاراتٍ فائقةٍ، وحذقٍ عمليٍّ باهر رغم بقائهم معياريًّا تتحكم بهم الأنساق الثقافية.

• إن العقل ليس أصيلا في الطبيعة البشرية وإنما هو كيانٌ ثقافي طارئ؛ فالإنسان كائنٌ بيولوجي ثقافي؛ ولكن المعوَّل عليه هو الثقافة؛ فهو بما ينضاف إليه وليس بما يولد به. إنكل فرد يولد بقابليات متهيئة للتشكُّل بالأسبق إليها؛ فيتكوَّن بها عقلٌ فرديٌّ يختلف بأنماطه عن عقول كل الآخرين؛ فهو مختلفٌ عن كل الآخرين بأنماطه الذهنية والوجدانية الخاصة به؛ حتى داخل النسق الثقافي الذي ينتمي إليه؛ أما اختلافه مع مَنهم خارج النسق فهو اختلافٌ عميق وحادٌّ ومزدوج.  

• إن العقل تابعٌ للعواطف ومحكومٌ بالمشاعر فهي الأصل وليس العقل سوى أداة من أدوات الصراع عند أكثر البشر، على مختلف المستويات الفردية والجماعية.

• إن القلة من الأفراد الذين يندفعون تلقائيًّا من أجل اكتشاف الحقيقة؛ يكون اندفاعهم بدافع الشغف الذاتي التلقائي؛ أو بدافع الحيرة، والاحتياج النفسي العميق إلى إطفاء حرْقة التساؤلات. أي أنه اندفاعٌ عاطفي وجداني، أو هو شوقٌ عميقٌ تلقائيٌّ من أشواق بعض النفوس الفريدة الاستثنائية للتحقُّق.

• إن الحضارة ليست طبيعةً أصيلةً في الوجود البشري فهي طارئة بعد أزمانٍ سرمديةٍ من التيه. 

• إن العقل نشاطٌ وليس اسمًا؛ فالعقل نشاط الدماغ بما انضاف إلى قابلياته من قيم وولاءات وثقافة ومعارف وكفايات.

• إن العقل لا يكون عقلا معرفيًّا إلا بتبدُّلٍ بنيوي يجعله فاعليةًنقديةً فاحصةً.

• إن الأنساق الثقافية لا تتزاوج لوجود اختلافات نوعية بين كل الأنساق.

• إن كل فرد تختلف أنماطه الذهنية والوجدانية عن كل الآخرين.

• إن الاختلاف في الرؤى والمواقف هو الأصل إنه الانسياب التلقائي، أما التقارب؛ فيتطلب جهدًا وضميرًا حيًّا وإدراكًا لأولوية وتلقائية الاختلاف، فهو عملٌ من أعمال يقظة الانتباهغير تلقائي.  

• إن الاختلاف هو الأصل أما التماثل التام فمحال. وأما الممكن فهو التفهُّم.

• إن الازدهار الحاصل في العالم هو ازدهارٌ بالوسائل وقدرات التمكين.

• إن التطور الحضاري؛ قد تَحقَّق بعقلنةِ المؤسسات وعقلنة العمل وعقلنة التنظيم، وصرامة النظام وليس بارتقاء وعي الشعوب؛ فلا يوجد فرقٌ بين وعي العربي ووعي الإنسان الأمريكي. 

• إن البشرية عموما لا تزال تتحكم بها التلقائية؛ فهي متخلفة في الفكر والوعي والأخلاق.

• إن أجيال الأمم مستغرقة تلقائيًّا بأنساقها الثقافية المتوارَثة، ومستنزَفة ومستلَبةُ في المجالات الخدمية والعملية النفعية والاقتصادية.

• إن الأصل في الإنسان أنه كائنٌ متَّبع وليس مبدعًا. إن الإنسان كائنٌ مقلِّد وبسبب هذه الطبيعة المتحجرة؛ أمضى أزمانًا سرمديةً قبل أن يبدأ لديه حِسُّ الابتكار، وظل هذا الحس نادرًا غاية الندرة ومع ندرته فإن الجُموع تَرفضه وتحاربه؛ فالفرد المبدع عُومل دائمًا بالنبذ خلال كل مراحل التاريخ، وعند كل المجتمعات؛ فهو يُنظَر إليه كمنشق ومُفْسِد ومُتمرِّد ومهرطق وغير ملتزم وقد بَينتُ ذلك بوضوح في كتابي (الريادة الاستجابة)

• إن كل التطورات في الفلسفة والأفكار والعلوم والفنون والتنظيم والحضارة بشكل عام؛ قد نشأت من ومضات إبداعية فردية استثنائية، جاءت من خارج كل الأنساق الثقافية المتوارَثة.

• إن كل الرواد لم يولدوا؛ روَّادًا مبدعين لكنهم يتعرَّضون لظروف تستفزهم وتثيرهم استثارة مُلْهِبة ومُلهِمة؛ وبذلك تَنكسِر تلقائية التطبُّع، ويَنفصل الرائد معرفيًّا عن التيار السائد.

• إن كل عملٍ رياديٍّ حقيقيٍّ خارق لأي فرد؛ يكون حتمًا مغايرًا للنسق الذي نشأ فيه؛ كما يكون انفصالاً فرديًّا فكريًّا ومعرفيًّاعما تَطبَّع به الفرد ذاته بعد انكسار التأطير التلقائي؛ فالعمل الريادي ليس من إنتاج النسق المحيط به، وليس امتدادًا له، ولا منسوبًا إليه. إن كل الرواد الأفذاذ قد حوربوا من مجتمعاتهم، وربما تم إعدامهم. وهذه بحدِّ ذاتها ظاهرة بشرية مطردة لم يُنتبَه لها بما فيه الكفاية وربما أٌفْرِدها في كتابٍ كامل.

• إن كل انفصالٍ معرفيٍّ عن الأنساق الثقافية المتوارَثة؛ لابد أن يكون ذا أصل فلسفي؛ فهو خروجٌ عن مستوى انسياب تلقائيةبداهة الغفلة، وانتقالٌ إلى مستوى قصدية بداهة اليقظة.

• إن التحول الفكري الذي يطرأ فجأة في حياة قلة من الأفراد؛ هو تحوُّلٌ جذري. ينقلهم من نظام التفكير التلقائي النسقي، إلى نظام التفكير الفلسفي بكل ما يعنيه من توقد وانفتاح وانفصال عن السائد؛ إنه نوعٌ من الإفاقة العقلية المتأججة؛ نجد ذلك في حياة ديكارت بعد نقاشه مع إسحاق بكمان. كما نجده في حياة كانط والزلزال الفكري الذي انتابه بعد أن قرأ فلسفة هيوم. كما نجد التحول الجذري ذاته لفخته حين قرأ فلسفة كانط حيث كتب يقول: ((الثورة التي أحدثها في كياني وفي طريقتي في التفكير؛ كُلُّ هذا أمرٌ يتجاوز كل تعبير)) ويؤكد: ((لقد وجدتُ الآن الراحة والمتعة لنفسي، ووجدت الطريق الحقيقي الذي عليَّ أن أسلكه. لقد أسلمتُ نفسي كلها لدراسة فلسفة كانط)) ويضيف: ((إني أعيش في عالمٍ جديد منذ أنْ قرأتُ نقد العقل العملي. إن الأمور التي كانت تبدو لي غير قابلةٍ للإنكار قد أصبحت الآن منكَرة، والأمور التي كنت أؤمن بها؛ قد بدتْ لي أنها كانت بغير دليل، بينما اتضحت لي المعاني الكبرى)) ونجد التحول نفسه يجتاح نتشه بقراءته لكتاب (العالم: إرادةً وتصورًا) لشوبنهاور. ولو تتبعنا حياة عظماء الفكر خلال التاريخ لوجدنا الظاهرة تتكرر. أما الذين يضطرون لقراءة الكتب الفلسفية كمقررات تعليمية؛ فمن النادر أن تَترك فيهم أثرًا إيجابيًّا إلا إذا كان أثر التأفف والنفور ...          

• إن الفلسفة ليست معلومات يتم استظهارها، ولا هي فرعٌ علميٌّ من العلوم المختلفة، تَسهل إجادته، بل إن الفلسفة نقلةٌ نوعيةٌفي منهج التفكير؛ وإعادةِ ترتيبٍ لمنظومةِ القيم المعرفية، ولقيم الحياة، ولقيمة الإنسان، إن الفلسفة قطيعةٌ مع التفكير التلقائي، وقطيعة مع اجترار التاريخ، وقطيعة مع التفكير التعليمي الخَطِّي؛ وقطيعة مع تقديس الأشخاص، وقطيعة مع الانغلاق الثقافي، وقطيعة مع استسهالِ شأنِ التحقق المعرفي، إن الفلسفة لا تَنظر إلى المعرفة كمُعْطًى ناجز كما هو شأن الأنساق الثقافية؛ ولكنها بالعكس تَنظر إلى المعرفة بوصفها مشكلة عميقة معقَّدة، ومن هنا جاءت الأهمية التأسيسية (لنظرية المعرفة) إن الفلسفة وثبةٌ من ضَفَّة الامتثال التلقائي النسَقي، إلى ضفةٍ أخرى تَفصل بينهما فجوةٌ واسعةٌ وعميقةٌ، إن الفلسفةَ مبارَحَةٌ لدائرة التكرار النمطي، إنها احتجاجٌ عميق ضد إعادة إنتاج الماضي والاستمرار في تدويره، وهي قطيعةٌ مع أوهام امتلاك الحقيقة المطلقة؛ وهي تأسيسٌلنبش وكشف أوهام الأنساق الثقافية، وهي رجٌّ وخلخلة للإيقاظ من تَوَهُّم المعرفة، إنها نزعٌ للحُجُب عن المألوف ليرى العقلُالنقدي كلَّ ما كان متواريا خلف ألف حجاب من التعود والتطبع والتآلف والتلقائية.

• إن البعض يتوَهَّمون أن الفلسفة تؤلِّه العقل، وتمجِّده؛ أما الحقيقة فهي أن أول مهام الفلسفة تبصير الناس بمهزلة العقل البشري؛ فالعقل نشاطٌ، وليس اسمًا، وهو لا يكون عقلا بمعناه الفلسفي إلا إذا صار فاعلية نقدية. ولن يكون كذلك إلا بإفاقة استثنائية تنكسر بها البداهات التلقائية.

• يظن البعض بأن تدريس الفلسفة في أي بلد سيؤدي إلى تَغَيُّرِالوعي العام؛ وخصوصًا وعي الدارسين. أما الحقيقة؛ فهي أن الفلسفة ليست مادة تعليمية عادية؛ فحتى أساتذة الفلسفة أغلبهم ناقلو معلومات فلسفية وليسوا فلاسفة؛ إنهم متخصصون مهنيًّا بمجال الفلسفة. ولن يكون غريبًا أن يكون أستاذ فلسفة، وبتفكير يقيني مضاد للتفكير الفلسفي. فهو يشتغل بمجال الفلسفة وحافظ لمعلوماتٍ فلسفية لكنه قد يكون محكومًا بنظام تفكير مغاير وربما مضاد للفلسفة.

• ليس دماغ الإنسان سوى كومبيوتر حي. لكنه يمتاز بالمرونة الشديدة في التعامل مع المتغيرات. إنه ذاتيُّ التشغيل، وذاتيُّالمعالجة، وذاتيُّ التبرمُج. إن نشاط الدماغ في الحالات العادية؛هو الانتظام التلقائي فيما تم التطبُّع به حيث ينساب التفكير والسلوك انسيابًا تلقائيا. وتَمضي الحياةُ على نفس المنوال عند أكثر الناس. لكنه في بعض الحالات الاستثنائية يكون نشاطه غير عادي. إن مرونة الدماغ وعمليات التفاعُل المتقد بين ما يحويه الدماغ من معلومات وخبرات ورؤى؛ هي مصدر العبقرية الاستثنائية الخارقة. كما أن هذه المرونة هي سبب الاضطرابات النفسية في حدها الأقصى؛ فحين يشتطُّ نشاط الدماغ المصحوب بخوف وتوتر فإن حركته تتجاوز المسارات النمطية فيَشعر الشخصُ بأنه قد انفصل عن الواقع فيصاب بالذعر حيث يصير العالم غريبًا بالنسبة له مثلما حصل للغزالي وديكارت وغيرهما.

• إن اكتشاف أنماط الدماغ هي أحد الظواهر التي أوحتْباختراع الذكاء الاصطناعي. إن الدماغ عظيم لمن يجيد استثماره ولكنه يتطبَّع بما يتلقاه أيًّا كان اتجاه ومستوى ما يتلقاه؛ فهو في الحالة التلقائية؛ يتخذ الأسبق إليه معيارًا للقبول أو الرفض؛ فالدماغ ذاته لا يملك آلية للتمييز. وإنما تتكَوَّن معايير التمييز بما يتلقاه؛ لذلك تبقى أجيال كل الأمم محكومة بأنساقها الثقافية المتوارَثة.

• إن العقل لا يكون عقلًا معرفيا مستقلاً إلا إذا انفك من قبضة النسق الذي يحيط به. وهو لا ينفك إلا إذا أصبح فاعلية نقدية.إنه في هذه الحالة سيكون حتمًا خارج النسق الثقافي السائد الذي تَطبَّع به في طفولته؛ هذه حال كل الذين تجتاحهم تساؤلات حادة وكثيفة حول كل الأنساق الثقافية المنسابة تلقائيًّا من أعماق التاريخ. وهذه الظاهرة تناولتها بالتفصيل في كتابي (الإنسان كائن تلقائي) لكن ينبغي أن ندرك أن الانعتاق من البرمجة التلقائية لا يأتي بتخطيط وإنما يكون بفاعلية التساؤلات التلقائية الملحَّة حيث تنكسر البداهة التلقائية بفاعلية ضغط التساؤلات فتحل بداهة اليقظة محل بداهة الغفلة.

• كنت سابقًا أتصور أن أوروبا انعتقت من أغلال الكنيسة وانطلقت في آفاق التقدم بالاستجابة للفلاسفة ورواد العلم ومفكري التنوير ولكني حين تعمقت في دراسة التاريخ الأوروبي في كل مراحله ابتداء بتكوُّن المجتمع الروماني أو المجتمع اليوناني ثم التوسع في أوروبا بالقوة بقيادة يوليوس قيصر وكذلك دراسة تاريخ الهند والصين واليابان وتاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، وتاريخ دول أمريكا اللاتينية، وكل التاريخ الإنساني؛ لم أجد أي دين ولا أي مذهب ولا أية رؤية فلسفية انتصرت وشاعت عن طريق الاقناع؛ فلم أجد أية أمة تخلَّتْ طوعًا واقتناعًا عن نَسَقِها الثقافي؛ واعتنقتْ نسقًا ثقافيا مغايرا. وإنما كل الأديان وكل المذاهب وكل الأنساق الثقافية؛ قد انتشرت بواسطة سلطة قائمة، أو بقوَّةٍ مصاحبة.إن الفكرة العزلاء يحاربها كل الناس حتى سقراط أعدمه أهل أثينا بدعوى أنه يَسبُّ الآلهة ويُفسد الشباب وكذلك الهندوسية شرَّعها وفَرَضَها ووطَّدها الحكام البراهمة. أما البوذية فبقيتْمرفوضةً حتى تبناها حكامٌ في الصين واليابان وكوريا وغيرها.ومارتن لوثر. يعترف بوضوح أنه لولا وقوف بعض الأمراء الألمان معه ضد الكنيسة وضد الامبراطورية المقدسة لكان نصيبه الحرق حيا؛ كما حصل لأفرادٍ قبله وبعده أيضا. لكن بعض الأمراء الألمان كانوا متلهفين للاستقلال عن تحكُّم الامبراطورية المقدسة وتحكُّم الكنيسة؛ فجاء انشقاق مارتن لوثر فرصةً لتحقق رغبتهم. ومثل ذلك يقال عن دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فهو منذ بداية دعوته؛ لم يَذهب لإلقاء مواعظ في المساجد؛ ليدعو عموم الناس. وإنما حرص بأن يتحالف مع صاحب سلطة. وبذلك نجحت دعوته وتوطدت بعمق وانتشرت في كل العالم. بل قبل ذلك الرسول عليه السلام بقي في مكة سنوات طويلة لم يَستجبْ له سوى عدد قليل من الأفراداضطروا أن يهاجروا إلى الحبشة. فلما تحالف الرسول عليه السلام مع الأنصار، ثم هاجر إلى المدينة، وصار يملك قوةً؛انتشر الإسلام بسرعة حتى جاء عام الوفود فكانت تأتي القبائل لتبايع وتنضم لدين الله؛ فالحقيقة مهما بلغت من الكمال والنصاعة؛ لن تستطيع بمجرد الاقناع؛ تحويل مجتمع عن نسقه الثقافي السائد. لذلك يُذكِّر الله المؤمنين بأنهم قبل الهجرة: ((مستضعفون في الأرض)) إن أي نسق ثقافي سائد لا يَسمح بالانشقاق عليه. إن الناس يقلد بعضهم بعضًا، وهم مع الكثرة، ومع المألوف، ويُشَنِّعون على من ينفصل عما اعتادوا عليه. 

• عظَمَة الإسلام وإشراقه ووضوح تعاليمه؛ لم تؤد إلى تَحوُّل الصين أو أوروبا أو اليابان أو كوريا أو غيرها. أما الذين يتحدَّثون عن انتشار الإسلام في إندونيسيا وما ليزيا؛ التي لم تَصِلْها الفتوحُ؛ فينسون عوامل كثيرة أدَّتْ إلى انتشاره هناك؛ أولها أن هذا الانتشار قد حصل بعد انتشا الإسلام فباتدينًا عالميًّا؛ فكان حضوره قويًّا في أوطانٍ قريبة من تلك البقاع؛ فقد كان قائمًا في الهند وغيرها. ثم إن تلك البلاد لها خصوصية؛ فهي أساسًا كانت بلادًا فطرية ولم يكن يجمعها دينٌ واحد؛ وبذلك كانوا يعيشون فراغًا ينتظر من يملأه؛ فجاء دعاةٌ صالحون؛ فأثَّروا في أفرادٍ؛ فالتحول كان فرديًّا ولم يكن جماعيًّا. وبمرور الزمن انتشر الإسلام بينهم عن طريق التحول الفردي وليس الجماعي ثم تأثر بعضهم ببعض خلال القرون، لأن الناس هناك كانوا من دون سلطة سياسية ذات نسقِ ثقافي جامعٍ وإنما كانت وثنيات مختلفة، من دون أي نسقٍ جامع. بخلاف الهندوس وأتباع كونفوشيوس وبوذا والمسيحيين والسيخ وغيرهم؛ ممن قاوموا وبقوا يتوارثون أنساقهم الثقافية بكل تلقائية، وبكل رفْضٍ لما عداه. إن التاريخ البشري كله لا يَحتفظ بأية واقعة عن تَخَلِّي مجتمعٍ بشكلٍ جماعي عن نَسَقِه الجامع والتحول إلى نَسَقٍ آخر.       

• بل إن المجتمعات تَستنكر وتُقاوم الجديد من الحضارات الأخرى حتى مع الاحتفاظ بنسقها الثقافي المتوارث؛ لكن يوجد وهْمٌ شائع عن اليابان حيث يجري اعتبارها البلد الذي أدخل علوم العصر ونظمه وأفكاره دون تلكؤ؛ بينما أن الحقيقة ليست كذلك؛ فاليان كانت ألأشد انغلاقًا فبعد وصول طلائع الغرب إلى اليابان تم إغلاق حدودها مدة تزيد عن قرنين، كان الإمبراطور الياباني خلال فترة الانغلاق؛ مجرد رمزٍ مقدَّس أما السلطة فقد كانت بيد غيره. ثم ظهر ميجي امبراطورًا جديدًا ولم يَقْبَل أن تؤخذ الدنيا باسمه دون سلطاتٍ حقيقية؛ فقرر أن يكونللإمبراطور سلطة فعلية، وأن لا يبقى مجرد رمزٍ مقدَّس،وبالكثير من الذكاء والحكمة؛ استطاع أن يستعيد سلطته وكان يريد الانفتاح على حضارة الغرب وأن يُدخِل لليابان كل ما يساعدها على التطور؛ فالحالة اليابانية الاستثنائية كانت لها ظروفٌ خاصة؛ ومن المعروف أن اليابانيين يقدسون إمبراطورهم؛ إنه الرمز الإلهي. وهو ذاته قد قرر الانفتاح على الحضارة الغربية والأخذ منها كل شيء يحقق التقدم؛ والتفتْحوله الكثرةُ، ولم يكن أمام الكل سوى الطاعة والاندفاع لتحقيق قرار الإمبراطور في تحقيق تقدم سريعٍ وتغيير جذري لإخراج اليابان من الانغلاق والعزلة؛ واستبدال ذلك بالانفتاح الواعي على كل الآفاق من أجل التدارك وإحراز التفوق؛ فالتغيير إذن قد جاء بواسطة الامبراطور الإله نفسه؛ فكان التَحوُّل سريعا وفاعلا. أما موقف الصين من الحضارة الغربية فكان الرفض والمقاومة؛ فلم تنفتح لحضارة العصر إلا بعد أحداث مزلزلة ...

• أما نحن العرب في هذا العصر فإن الهجاء المستمر للغرب والخوف مما أسموه الغزو الفكري قد خَلَق رد فعل قوي ضد كل عوامل الانعتاق من التخلف. لقد ظهر مفكرون عرب كثيرون حاولوا تنوير المجتمعات العربية والتأكيد لهم بأن ذلك لا يتعارض مع التراث لكن أولئك المفكرين لم يجدوا سوى الصد والرفض والتكفير والمحاكمات. وبالمقابل فإنه من السهل أن يَجِدَ استجابةً عامةً عارمةً؛ كلُّ من يحفز عناصر ثقافية متوارثة. إن الناس يستجيبون لمن يدغدغ عواطفهم، ويُشبع الحاجة النفسية إلى الشعور بالتميز التاريخي والتفوق الثقافي. إن الناس ينقادون لمن يمجِّد ما تآلفوا معه واعتادوا عليه وتطبعوا به. لذلك فإن رجلًا واحدًا مثل حسن البنا قد استطاع أن يَخلق تنظيمًا عالميًّا يضم الملايين في كل العالم ولم يكن أتباعه من العوام بل تجد فيهم آلاف الأطباء والمهندسين والمحامين وأساتذة الجامعات ومن مختلف التخصصات. بل نجد من كانوا طلائع التنوير؛ يَحدث لهم نكوصٌ حادٌّ إلى التراث ومقاومة عنيفة للتحديث؛ ويأتي سيد قطب نموذجًا لهذا الانعطاف الحاد؛ فقد كان منفتحًا على آفاق الحضارة المعاصرة؛ وكان يَسْخَر من تخيلات وأوهام عودة الخلافة التي يروِّج لها الإخوان، ثم انقلب انقلابًا كليًّا فانبرى يهجو حضارة العصر وينادي بالقطيعة التامة معها؛ والانكفاء التام على التراث؛ بل أمعن في الخيال حتى جزم بأن العالم سوف يَتقبَّل النموذج الذي يقترحه الإخوان للحياة الإنسانية. إنها صورة متخيَّلة موغلة في الوهم؛ مضادة لحقيقة التاريخ العربي في مختلف عصوره وهذا يؤكد هيمنة المتخيَّل وقوة وصلابة الموروث، ليس طبقًا لحقيقته، وإنما طبقًا للتصور الوهمي المُكَوَّن عنه.  

• ومقابل ذلك تبرز هشاشة الطارئ أمام سلطان وسطوة الأسبق المهيمن. إن أكثر من قرنين من فشل جهود المفكرين تؤكد انسداد قابلية الاستجابة لحضارةِ العصر حتى من الذين نالوا تعليما عصريًّا تخصصيًّا عاليا. بل إن الغالب على أكثر المتعلمين باختلاف تخصصاتهم؛ أنهم يَستخدمون كل ما نالوه من قدرات حجاجية، ومعارف تخصصية، لتأكيد ما نشأوا عليه، وتبرير مواقفهم الرافضة لحضارة العصر. إن النسق الثقافي قد صوَّر العصور العربية الماضية بصورة زاهية متخيَّلة تتناقض مع الحقيقة تناقضًا صارخًا لمن يعيد قراءة التاريخ بعقلٍ فاحصٍ؛ فاندفع الناس خلف ذلك الذي يَعِدهم بصورة خيالية لم تكن ولن تكون. ومثلما يبين ديديه أنزيو في كتابه (الجماعة واللاوعي): ((إن حلم جماعة؛ تمكن من الاشباع المباشر واللامشروط لرغبات كل واحدٍ من أعضائها)) ويؤكد: ((أن إنتاج الوهم؛ يكون جماعيًّا أو فرديًّا)) إن هذه معضلة معقدة غاية التعقيد والصلابة والقوة إن الرفض العميق لحضارة العصر حتى من الأعلى تعليمًا عصريًّا في المجتمعات العربية هي ظاهرة واسعة وعميقة وذات فاعلية هائلة في الرفض والمقاومة.

• كل التقدم الذي تحقق في مجالات الأفكار والنُّظُم والمؤسسان والعلوم والفنون والتقنيات، والتقدم الحضاري في شكل عام؛ لم يتحقق إلا بالانفصال ولو نسبيًّا عن الأنساق المتوارثة؛ فالتكرار لا يضيف شيئًا ثم إن كل مجتمع يكون مغتبطًا بنسقه الثقافي الذي تطبع به بشكل تلقائي؛ فكل جيل يتطبع تلقائيا وبشكل حتمي بما تطبع به الجيل الذي قبله ويظل مرتهَنًا بهذا التطبع يغتبط به ويلتزم تلقائيا بمقتضاه ويدعو إليه ويستميت في الدفاع عنه. ويَحصل هذا التتابُع على مر الأجيال بحتميةٍ لا تَقِلُّ عن حتمية التناسل البيولوجي فالإنسان كائن ثقافي وكل نَسَقٍ يَخطف كل مولود فيتملكه قبل بزوغ وعيه. إن الأنساق تَملِلك ولا تُملَك وتَحكُم ولا تُحكَم. وهذه هي المعضلة البشرية الكبرى الأشد عمقًا والأقوى بنية والأعمق ضررًا؛فالعقل يُكَوِّنه ويحتله ويتحكم به الأسبق إليه. وكل نَسَقٍثقافي محكومٌ بنقطة البداية كما تُحْكَم الأنهارُ بمجاريها. إن محاولة التغيير الاجتماعي تشبه محاولة صرف نهر عن مجراه العميق ضمن تضاريس طبيعية غير مواتية؛ ومن البديهي أن هذا لتقريب الصورة فقط أما تحويل مجتمع عن مساره المعتادإلى مسار مغاير فهو أصعبُ مهمةٍ ينهض بها قائد. لكنه الإنجاز الأعظم لقادة الفعل الحاسمين.

• رغم أن عموم الناس لا يتأثرون بالأفكار الفلسفية؛ فإن أحداثًا مزلزلة وقيادات سياسية حاسمة قد أدت إلى أن يتحول كثير من معطيات الفلسفة إلى واقع اجتماعي في المجتمعات الأوروبية ليس بوعي الشعوب وإنما بواسطة تلك الأحداث العاصفة والقيادات السياسية الحاسمة؛ فالشعوب الأوروبية لا تختلف عن غيرها من شعوب الأرض لكن ظروفها وأحداثٌ تاريخية تخصها، وقيادات سياسية ظهرت فيها؛ قد أدت إلى أن تتبلور أوضاعها على هذا النحو دون أن يخطط أي أحد لما تَحقَّق فعلا. وهنا تتبادر إلى الذهن أسماء طاليس وسقراط وصولونوبيركليس ويوليوس قيصر ووليم الفاتح وكولومبس وكوبرنيكوس وجاليليو ومارتن لوثر وكالفن وهنري الثامن واليزابيت الأولى وشكسبير وفرانسيس بيكون وديكارت ونيوتن وليفنهوك واوليفر كرومويل وجون لوك وديفيد هيوم وفريدريك العظيم وبطرس الأكبر وكانط وهيجل وشوبنهاور ونتشه ووليم جيمس وأمثالهم من الأفراد الاستثنائيين.  

• المعروف أن الحضارة الغربية الحديثة هي امتدادٌ وإحياءٌ للحضارة اليونانية أما الحضارة الرومانية فهي امتداد للحضارة اليونانية.. فالأصل الذي تقوم عليه حضارة الغرب هو الفكر الفلسفي وليست العلوم سوى بعض نتائج هذا الفكر المحوري في الغرب وهو يمثل انفصالًا وقطيعةً مع كل الأنساق الثقافية. لقد كانت الحضارة اليونانية بفكرها الفلسفي طفرةً هائلةً في ذلك العصر الموغل في القدم بل إنها مازالت تمثل طفرةً نوعية بالقياس للأنساق الثقافية؛ فالنهضة الأوربية في نهاية العصور الوسطى تمثل الميلاد الجديد لأوروبا. لذلك فإنه لا يوجد جامعٌ بين الحضارات القديمة والحضارة الغربية بصيغتها اليونانية أو الرومانية أو الحديثة فهي على مستوى الفكر والعلم والنِّظام الاجتماعي والسياسي تمثل انفصالا تاما عن كل الحضارات الأخرى لذلك خصَّصتُ كتابا كاملا بعنوان (التغيرات النوعية في الحضارة الإنسانية) لإبراز التغيُّرات النوعية.  

• يوجد التباسٌ  شديد فالكثيرون يعتقدون بأن ظهور العلوم الحديثة عند الغرب هو الذي يميز الحضارة الغربية بينما أن العلم هو أحد العوامل التي مكَّنتْ أوروبا لكنه حتى مطلع القرن العشرين لم يكن العلم سوى عامل ثانوي فالتميُّز الأوروبي هو تميٌّز اجتماعي تنظيمي سياسي. أما العلم فهو متاحٌ منذ زمن طويل لأممٍ أخرى مازالت متخلفة. إن العلم أداةٌمهمة ولكن الأداة تتطلب من يستخدمها بكفاية وفاعلية. وقد فصَّلتُ ذلك في كتابي (الريادة والاستجابة) إن تصحيح هذا الالتباس في غاية الأهمية لذلك فإنه يمثل إحدى النقاط المحورية في مشروعي الفكري ففي هذا الكتاب رؤية تقلب فلسفة التاريخ والفلسفة الاجتماعية وتَربط التغيير بالأحداث وبالتفاعل التلقائي وما يسميه هيجل مكر التاريخ وبالقيادات السياسية الحاسمة. أما العلوم والأفكار فهي أدوات تَنتظر في أي مجتمعٍ؛ أحداثا تتمخض عن نتائج إيجابية وقادةً حاسمين يحيلونها إلى واقعٍ قابلٍ للنمو والاستمرار حتى ولو بدون قصدٍ منهم فأوضاع البشر تتحكم بها التلقائية والصيرورة.

• رغم أن طفرة الأفكار الفلسفية؛ كانت خلف التحولات الأوروبيةالاستثنائية؛ فإن الفلسفة لا تؤثر بشكل مباشر وإنما تَجِد طريقها للتأثير بواسطة الأحداث وقادة الفعل؛ فإذا لم تتحقق أحداثٌ إيجابية، وقيادات سياسية حاسمة؛ فإن الأفكار المضيئة؛ تَظل عديمة التأثير على أوضاع المجتمعات؛  فخلال قرنين ظهر مفكرون عرب حاولوا استنهاض الأمة من أجل أن تتحاوز حالة العطالة الحضارية واتجهوا لإبراز إيجابيات التراث ونقد السلبيات لكن الأمم لا تتقبل نقد تراثها لذلك ذهب المفكرون دون أن يستجاب لهم بل كانت النتائج عكسية حيث كان رد الفعل الرافض للأفكار المغايرة قويا فازدادت الحصون وتضاعف قلاع المقاومة وتعمقت خنادق الرفض. إن الأصل في الأمم أنها لا تتقبل نقد أنساقها الثقافية لأنها تمثل هويتها وهي لن تتخلى عن هويتها ولن تتقبل طوعا أي مساس بهذه الهوية بل تقاوم بعنف لمنع المساس بأي شيء يتعلق بالنسق الثقافي. إن التاريخ البشري يُقَدِّم أمثلةً واضحةً ليس في تاريخنا بل في تاريخ كل الأمم فالرفض للمغاير هو رفضٌ تلقائي حتمي.ويحصل ذلك حتى في العلم؛ حيث تُرفَض النظريات الجديدة إذا كانت تمس نظريات قائمة؛ فلا يتم قبولها إلا بعد جيلٍ من ظهورها.  

• يعتقد البعض بأن أوروبا قد استقبلت عوامل التقدم بانفتاح. أما الحقيقة فهي أن معاداة الفلسفة، والاكتشافات العلمية،والعلم الموضوعي، وعوامل التغيير؛ ليس حصرًا بنسق ثقافي دون غيره بل كل الأنساق الثقافية المتوارثة تعادي الفلسفة وترفض الكشوف العلمية وقت ظهورها ولم تكن أوروبا استثناء من هذه العداوة العميقة والتلقائية حتى أثينا في عصر سقراط وهو عصرٌ يجري تمجيده بشكل مطلق وهذه من أخطأ التاريخ؛ فالأثينيون حكموا على سقراط بالإعدام ونفذوا فيه الحكم كما طاردوا فلاسفة آخرين ولولا هروبهم لكان لهم نفس المصير.وفي بداية عصر الانبعاث الأوروبي الحديث تم إحراق حودانوابرونو وقبله وبعده لقي مفكرون نفس المصير. كما تمت محاكمة جاليليو وأمضى بقية حياته بالإقامة الجبرية. إن أوروبا هي التي أنشأت محاكم التفتيش وطاردت الفلاسفة والمفكرين والعلماء ولم تهدأ الأوضاع في أوروبا حتى تم تحييد الكنيسة وجُرِّدَت من سلطاتها على أوروبا فلم يعد من حقها التدخل في الأمور الشخصية للأفراد ولا التدخل في السياسة ولا في الشأنالعام وقد شرحتُ ذلك بوضوح شديد وتفصيل في كتابي ( الريادة والاستجابة ) إن الكثيرين يتوهمون بأن الاستجابة للتنوير هي التي أنقذت أوروبا أما الحقائق التاريخية فهي تؤكد أن رد الفعل لتلقائي في كل مكان هو رفْض المغاير،ومحاربة الفكر المخالف للمألوف، وإسكات من يخرجون عن التيارات السائدة. حتى في العلم أثبت توماس كون في كتابه (بنية الثورات العلمية) وغيره بأن العلماء يقاومون النظريات المضادة لما ألفوه وطمأنوا إليه وأكد العالم ماكس بلانك وغيره بأنه لا يمكن قبول نظرية علمية جديدة حتى يموت جيل العلماء الذين نشأوا على النظرية المعدَّلة ويأتي جيلٌ مازال خالي الذهن فيتلقى النظرية الجديدة. إن غياب هذه الحقائق عن أذهان أكثر الناس في كل العالم؛ يمثل خللًا معرفيًّا شديدا له نتائج بالغة الضرر لذلك فإنه من الأخطاء الكبرى أن التعليم في معظم بلدان العالم لا يتناول هذه الحقائق التاريخية ليعرف الناس بأن الرفض التلقائي للأفكار المغايرة هو الاستجابة التلقائية دائما. لكنها حقيقة رغم وضوحها تاريخيًّا إلا أن تصورات الناس مغايرة لذلك. إنني أحاول تصحيح أوهام كثيرة عن العقل البشري وعن تَوَهُّم المعرفة وعن الأنساق الثقافية المتوارثة. وعن عوامل التغيير الاجتماعي والإعاقات الثقافية.

                                                                      

 

 

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه