2019-08-23 

أهمية التحولات الجيوستراتيجية المتزايدة حول منطقة البحر الاحمر والمستقبل السياسي للدول المطلة علية   (2 من 6)  

د.راشد ابانمي

الدكتور/ راشد ابانمي

* جامعة أكسفورد

rashed.abanamay@oxcis.ac.uk

 

تناولنا في المقال، وبشكل عام ومختصر جداً، البحر الاحمر واهميته الجيوسياسية المتزايدة وخصوصاً البوابتان الرئيسيتان، باب المندب وقناة السويس الذي يربط جنوبه بالمحيط الهندي ودول آسيا، ومن جهة الشمال مع البحر الابيض المتوسط ودول اوربا.

وفي هذا المقال سنلقي بعض الضؤ، وبإيجاز، على خريطة الصراع على البحر الأحمر والحراك المتشابك السياسي والعسكري وكذلك الاقتصادي والسياحي الذي تشهده منطقة البحر الأحمر، والذي هو الآن في طور إعادة رسم خارطة السيادة والتحالفات الإقليمية والدولية في هذه المنطقة من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها.

 

الصراعات الدولية المعاصرة وتواجدها في منطقة البحر الأحمر

 

 

تتشكل التغيرات والتحالفات الدولية حول منطقة البحر الاحمر وتتبلور أهميتها من الموقع الاستراتيجي الهام والحيوي للبحر الأحمر ببوابته الشماليه -قناة السويس، وبوابته الجنوبيه -مضيق باب المندب، والذي يعد أقصر وأسرع ممر بحري بين الشرق والغرب، ولقد تعاظمت اهميته كونه الشريان الاقتصادي الأبرز والممر الاستراتيجي الاهم لمنبع الطاقة العالمية من الخلبج والمتوجه لأوروبا وأميركا، حيث يمرُّ عبْره اكثر من 13% من حركة التجارة العالمية، سواء من أوروبا وأميركا إلى آسيا وإفريقيا، أو من اليابان والصين والهند لإفريقيا واوربا.

 

 

واكتسبت المنطقة أهمية متزايدة كبرى منذ بداية القرن الحالي وخصوصاً بٌعَيدَ احداث سبتمبر لعام2001م كمقراً وممراً عسكرياً هاماً تسلكه القوى الدولية لنقل القوات العسكرية بين قواعد تلك الدول المنتشرة حول العالم ونقلها إلى مناطق النزاع مما جعل منطقة البحر الاحمر ودولها هدفاً لتمركز القوى الدولية الكبرى للإستفادة من موقع المنطقة الاستراتيجي عسكرياً وسياسياً، ومن خلال تشييد القواعد العسكرية التي تهدف الى مراقبة بؤر التوتر بإفريقيا والشرق الأوسط فضلاً عن حماية التجارة الدولية وناقلات النفط من القرصنة اوالاعتداءات وكذلك ما عرف بـ "الحرب على الإرهاب."

 

 

ولقد بدأ يلوح في الافق ومنذ اواسط بداية هذا القرن تيارات تنموية وخطط اقتصادية كبيره للإستفادة من موارد المنطقة الاقتصادية واستثمارها سياحياً والتي تهدف، فيما تهدف اليه، الى تنمية المناطق المشاطئة للبحر الأحمر، وكذلك الى دعم شعوب الدول المشاطئة للبحر الاحمر والتعاون فيما بينها بشكل عام. وتجسدت تلك الخطط فعلياً وواقعياً في المناطق الساحلية للمملكة العربية السعودية بشكل خاص. وسنخصص هذا المقال للمشاريع التنموية الاقتصادية والسياحية المقامة في سواحل البحر الأحمر للمملكة العربية السعودية كونها تكون المنفردة بين الدول المشاطئة للبحر الأحمر في تلك الإنجازات الكبيرة، ثم نلحقها في المقال الثالث والرابع الخاص بالشأن السياسي والعسكري:

 

 

المشاريع الأقتصادية التنموية لمنطقة الأحمر

 

 

بالإضافة الى الإنجازات الهائلة التي تتمتع بها محافظة جدة كبوابة بحرية وميناء مهم للمملكة العربية السعودية من أزل التاريخ، وكذلك منطقة ينبع الساحلية للبحر الأحمر منذ اواسط السبعينيات من القرن المنصرم في شمال المملكة، بدأت التحولات الاستراتيجية الحالية بتزايد كبير منذ بداية القرن الحالي وبالتحديد بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001م وتكثيف التواجد الغربي العسكري والاستخباراتي المتزايد في منطقة البحر الأحمر لمحاربة الأرهاب والحد من القرصنة في منطقة القرن الافريقي والذي سيكون موضوع المقال الثالث.

 

 

وتمتلك السعودية النصيب الأكبر من شواطئ البحر الأحمر، اي أكثر من الثلث من كامل شواطئ البحر الأحمر من بين الدول المشاطئة له، وبالتجديد أربعة وثلاثون في المائة من المجموع الكلي لشواطئ البحر الأحمر، وبإجمالي يبلغ نحو الف وتسعمائة كيلومتراً من امتداد طول الساحل على الجانبين الذي يقارب الخمسة الآف كيلومترات، من طول البحر الاحمر الذي يقارب الألفين كيلومتر. كما أن أقصى عرض له يزيد قليلاً عن مائتين كيلومتر، بينما أقل عرض يبلغ حوالي العشرين كيلومتراً ويقع في باب المندب، أما متوسط العمق فيبلغ حوالي اربعمائة متراً.

 

 

ولقد كانت المملكة العربية السعودية سباقة في اطلاق المشاريع الأقتصادية التنموية العملاقة في منطقة البحر الأحمر وخصوصاً منذ بداية القرن الحالي. وكما أشرنا بأن اهم المشاريع الاقتصادية التنموية في منطقة البحر الأحمر مركزة على الجانب السعودي.

 

 

ومنذ بداية النصف الأخير من العقد الاول من القرن الحالي، اطلقت مشاريع اقتصادية تنموية حول منطقة البحر الاحمر، في المواقع الاستراتيجية المتميزه والحيوية على البحر الأحمر في شماله في ورابغ وكذلك في جنوبه، في منطقة جيزان وذلك من ضمن البرنامج الاقتصادي لإنشاء المدن الأقتصادية لأهداف استراتيجية وطموحة. وضمن رؤية المملكة 2030، أطلقت المملكة العربية السعودية عام 2017م مشاريع سياحية وإقتصادية ضخمة منها مشروع البحر الاحمر ومشروع نيوم. والمشاريع تلك تتضمن إقامة منتجعات سياحية استثنائية على أكثر من 50 جزيرة طبيعية بين مدينتي أملج والوجه غربي المملكة.

 

المشاريع الاقتصادية التنموية لمنطقة رابغ

 

تقع منطقة رابغ على ساحل البحر الأحمر، أي شمال مدينة جدة، وتعتبر مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في منطقة رابغ احد أكبر المشاريع التنموية السعودية، بإجمالي استثمارات تفوق الـ 100 بليون ريال. وعلى طول 35 كيلومتراً بمحاذاة الشريط الساحلي على البحر الأحمر وبمساحة 168 مليون متر مربع. ومشروع رابغ يضم ستة مناطق رئيسية هي ميناء بحري عالمي، ومنتجعات شاطئية، وجزيرة مالية، ومنطقة صناعية بالاضافة الى ثلاث أحياء سكنية نموذجية ومدينة تعليمية. ويعتبر هذا المشروع أكبر مشروع يتم تطويره من خلال القطاع الخاص في المنطقة، حيث تم طرح 30 في المئة منه للاكتتاب العام وتعمل شركة إعمار التي تتخذ من دبي مقراً لها على تطويره بالتعاون مع الهيئة العامة للاستثمار. 

 

 

المشاريع الا قتصادية التنموية لمنطقة جازان

 

 

تبلغ سواحل منطقة جازان أكثر من 250 كيلو ولقد تم تدشين المنطقة التنموية الأقتصادية لجازان في نهاية عام 2006م وعلى مدى عشرين عاماً بتكلفة استثمارية تزيد عن مائة مليار ريال. وتبعد حوالي خمسين كيلومتراً شمال مدينة جازان وعلى مساحة 110 ملايين متر مربع، وتتميز بموقعها الاستراتيجي، على طول إثنا عشر كيلومتراً بمحاذاة الشريط الساحلي وعلى أهم المسارات البحرية العالمية في جنوب البحر الأحمر، وبعمق 8 كيلومترات وتم إنشاء ميناء صناعي متكامل متعدد الاستخدامات بتصميم أحدث التقنيات العالمية وتزويده بأفضل المعدات. وستوفر منطقة جازان أسعار تنافسية للطاقة تمنحها ميزة خاصة للجذب بفضل وجود مصفاة شركة أرامكو السعودية ذات القدرة التكريرية التي تصل إلى 400 ألف برميل يومياً،.

 

وقد تم تخصيص ثلثي المدينة لاحتواء الصناعات الرئيسية والثقيلة والصناعات الثانوية حيث تم استقطاب استثمارات صناعية لشركات عالمية وسعودية بإنشاء ثلاث مصانع عملاقة في مصنع للحديد والصلب ومجمع مصفاة ومصهر الالمنيوم بقيمة أربعة مليارات دولار كاستثمار صيني دولي مشترك بالاضافة الى مجمع للتصنيع السمكي والحوض الجاف وتجاوز تلك المشاريع مجتمعة الى ستة مليارات دولار. كما تم إنشاء محطة لتوليد الطاقة الكافية لدعم هذه الصناعات وكذلك للمناطق المركزية الأخرى للأعمال التجارية وتطوير الموارد البشرية وأحياء سكنية متنوعة ومجمعات للمراكز التجارية والصحية والتعليمية والخدمات المدنية ومناطق ترفيهية تضم أرقى المنتجعات والفنادق العالمية.

 

والموقع المتميز لمنطقة جازان الأقتصادية يكمن في قربه من الأسواق المحلية و الإقليمية وما يوفره كميناء مهم على ساحل البحر الأحمر ومحطة لحركة السفن بين البحر الأبيض المتوسط و المحيط الهندي وماتشكله لإقامة تبادل تجاري دولي بين قارتي آسيا وأفريقيا، ، وهذا المشروع الكبير يتم تطويره من خلال القطاع الخاص بقيادة كل من شركة mmc الماليزية وهي اكبر شركة ماليزية متخصصة في مجالات الهندسة والانشاءات ومجموعة ابن لادن السعودية كما يشارك في تطوير المدينة كل من شركة دار الدولية وشركة عبر المملكة للاستثمار PKI.A وشركة ان البكري واولاده القابضة وشركة طريق الغربية للتنمية الصناعية (WWDC). وهؤلاء يتكفلون بجميع تكاليف إنشاء البنية التحتية في المدينة من دون أن تتحمل الدولة أية مبالغ مالية باستثناء التسهيلات التي تقدمها الجهات الحكومية ذات العلاقة. وقد تم تخصيص ما نسبته 2.5 في المئة من أسهم الشركة المطورة للمدينة لذوي الدخل المحدود من أهالي جازان. وبالفعل فلقد جذبت المنطقة وفي وقت وجيز، استثمارات عالمية ومحلية في الصناعات البترولية وتم تشييد مجمع للحديد والصلب بالاضافة الى انجازات مهمة في مجالات البنى التحتية والخدمات المساندة. وبنهاية عام 2012م تم الإتفاق بين تحالف مكون من ثمانٍ شركات محلية ودولية مع أرامكو السعودية بتشييد مصفاة وفرضة جازان على شاطئ البحر الأحمر، على مساحة تقدَّر بـ103 كم مربعة، وبساحل بطول 11.5 كم، وعلى بُعد 66 كم من مدينة جازان شمالًا، أي بمحاذاة أهم طرق الشحن على البحر الأحمر والذي يميزه بتوافر المواد الخام.

 

تيران وصنافير

 

في منتصف عام 2017م، تم إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتي تضمنت إعادة السيادة السعودية على جزيرتي "تيران" و"صنافير" بالبحر الأحمر. وجزيرتي تيران وصنافير تقعان قرب خليج العقبة في شمال البحر الأحمر، وتتحكمان في حركة الملاحة بخليج العقبة.

وضمن رؤية المملكة 2030، أطلقت المملكة العربية السعودية مشاريع سياحية وإقتصادية في الجزيرتين وماحولها. منها مشروع نيوم ومشروع البحر الاحمر. والمشاريع تلك تتضمن إقامة منتجعات سياحية استثنائية على أكثر من 50 جزيرة طبيعية بين مدينتي أملج والوجه غربي المملكة.

 

مشروع "نيوم" و"البحر الأحمر"

 

وهما من أضخم المشاريع التي أعلنت عن أقامتهما المملكة العربية السعودية، ومشروع نيوم هومشروع إقليمي يقام على أراضٍ من السعودية والأردن ومصر، باستثمارات إجمالية تقدر بـ500 مليار دولار. ومشروع البحر الأحمر كوجهة سياحية عالمية، ضمن "رؤية المملكة 2030". ويتضمن إقامة منتجعات سياحية على أكثر من 50 جزيرة طبيعية بين مدينتي أملج والوجه، والممتدة على ساحل البحر الأحمر بطول  200 كيلومتر. ومن المخطط له بأنه سيتم الانتهاء من المرحلة الأولى في الربع الأخير من 2022.

 

ويقع مشروع منطقة نيوم شمال غربي المملكة، على مساحة 26.500 كم2، وتطل من الشمال والغرب على البحر الأحمر وخليج العقبة، ويحيط بها من الشرق جبال بارتفاع 2.500 متر، وتتضمن خطط المشروع جسراً يربط بين المدينة الجديدة ومصر وباقي القارة الإفريقية. ويعتبر مشروع نيوم الأول من نوعه محلياً واقليمياً وعالمياً مستهدفاً في ذلك القطاعات الاستثمارية المتخصصة في الطاقة والمياه، والتنقل، والتقنيات الحيوية، والغذاء، والعلوم التقنية والرقمية، والتصنيع المتطور، والإعلام والإنتاج الإعلامي، والترفيه، والمعيشة الذي يمثل الركيزة الأساسية لباقي القطاعات في مختلف جوانب الحياة. وهو الأول من نوعه في تجسيده العمل العربي الوحدوي الذي يتعدى الحدود السعوديه ويشمل على أراضٍ داخل الحدود المصرية والأردنية، حيث سيكون أول منطقة خاصة ممتدة بين ثلاث دول الاردن ومصر والسعوديه مشكلاً بذلك اول عمل وحدوي على ارض الواقع وبإستقلال تام وخصوصيه تامه في نظامه وقوانينه بمرونة عالية لصياغة الأنظمة والتشريعات من قبل المستثمرين، التي تعزز الابتكار التقني والمجتمعي وفق أفضل الممارسات العالمية، حيث إن أنظمة منطقة المشروع مستقلة عن أنظمة الدول المشاركة فيما عدا السيادية منها. والمشروع سيكون موقع المدخل الرئيسي لجسر الملك سلمان الذي سيكون الرابط بين آسيا وإفريقيا، مما يعزز من مكانته وأهميته الاقتصادية.

وعلى المستوى العالمي كذلك فهو الأول من نوعه والذي كما اشرنا اليه، تمرُّ عبره قرابة 13% من حركة التجارة العالمية، بالإضافة إلى أنه يشكل محوراً يربط القارات الثلاث؛ آسيا وأوروبا وإفريقيا، إذ يمكن لـ70% من سكان العالم الوصول للموقع خلال 8 ساعات كحد أقصى، وهذا ما يتيح إمكانية جمع أفضل ما تزخر به مناطق العالم الرئيسية على صعيد المعرفة، والتقنية، والأبحاث، والتعليم، والمعيشة، والعمل.

 

وفي المقال الثالث والرابع سنلقي الضؤ على أولويات أجندة عمل العديد من القوى الدولية والإقليمية، والتحديات التي تشهدها المنطقة من المدخل الجنوبي، وتغيير شكل العلاقات بين دول القرن الإفريقي، خاصةً مع التوجه الجديد الذي تتبعه إثيوبيا والتواجد الدولي العسكري والسياسي "الأستخباراتي" في منطقة البحر الأحمر. وفي المقال الخامس سنلقي الضؤ على منطقة شمال البحر الأحمر التي هي الأخرى محط انظار العالم والتي تزخر بالصراعات والتطورات الحادة والتغيرات في خريطة التحالفات داخلها، وإعادة ترتيب التوازنات لخرائط القوى في هذه المنطقة الإقليمية المهمة وفي المقال السادس تحليل وخاتمة لاهمية ونتائج هذه الدراسة.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه