2015-10-10 

التدخل الروسي وسقوط ورقة التوت

سلطان العامر

الحدث واحد، لكن تأويلاته لا متناهية، ولا شيء يدل على ذلك مثل انضمام روسيا إلى قيادة التحالف العسكري الذي يعمل على الأرض منذ فترة بين إيران وحلفائها في العراق وسورية ولبنان. قوّة أي سرديّة تكمن في اتساقها، ووظيفة منظريها هي نفي التناقض الذي تحمله الأحداث الجديدة والسعي نحو الاستيلاء على الحدث وتحويله إلى عنصر إثبات لصحة السردية واتساقها، وذلك عبر وسائل متنوعة، مثل تسمية الأشياء بغير أسمائها، وإعادة التأطير، وإخفاء المعطيات…إلخ. وهذا بالضبط ما شاهدناه عند منظري ما يسمى بـ«محور الممانعة»، فرئيس تحرير صحيفة الأخبار إبراهيم الأمين، استعار مصطلح (الشرق الأوسط الجديد) من جورج بوش وعنون به مقالته التي بشّر فيها بأن التدخل العسكري الروسي ما هو إلا فتح (صفحة جديدة في تاريخ العالم)، وإنه اختبار ميداني أول لـ(كسر أحادية القيادة الأميركية للعالم منذ ربع قرن)، وأن مثل هذا الحدث يعتبر (الفرصة الأكبر لإدخال سورية في مسار حل حقيقي). إن أوّل ما يصدمنا في مثل هذا الكلام هو الانتقال السلس لمفاهيم ولغة الإمبريالية الأميركية إلى السردية التي تدعي أنها تقاومها. فأية دولة في العالم، مهما كانت قوتها، لا تستطيع ممارسة العنف من دون محاولة لشرعنة هذا العنف، وتختلف طرق الشرعنة من فضاء إلى آخر. فمنذ تفكك الاتحاد السوفياتي، وهناك سرديتان تشرعن من خلالهما الولايات المتحدة تدخلاتها في أي مكان في العالم: التدخل العسكري الإنساني، ومحاربة الإرهاب. منذ بداية الثورة السورية، لم يرتكب بشار الأسد الغلطة نفسها التي ارتكبها القذافي الذي حاول تبرير استخدام العنف ضد المدنيين من منطلق حق الدولة المطلق في احتكار ممارسة العنف وفرض النظام بالقوّة، بل استعار من الأميركيين والصهاينة وغيرهم خطاب محاربة الإرهاب، فهو في قتاله إنما يحارب العدو نفسه الذي تحاربه إمبراطورية هذا الزمان، وبالتالي يشرعن لنفسه بأنه يقدم خدمات لها. ومحاربة (الإرهابيين) و(التكفيريين) هو أحد المبررات الرئيسة التي استخدمها حزب الله في دخوله سورية وتوفيره الدعم للنظام السوري، وهو المبرر نفسه الذي تستخدمه إيران وحلفاؤها العراقيون في حربهم ضد «داعش» هناك. وعندما قامت الولايات المتحدة بتشكيل تحالفها الدولي ضد «داعش» من أجل حماية مصالحها في العراق والخليج، لم يعجب هذا الأمر إيران وحلفاؤها. ذلك أن اعتراضهم الرئيس على أميركا ليس في أنها تتدخل في بلدان العرب باسم محاربة (الإرهاب) بل في أنها تتبنى مفهوماً ضيقاً للإرهاب. يقول إبراهيم الأمين (الإرهاب كل متكامل، وأن ميليشيات الجيش الحر لا تختلف عن جبهة النصرة ولا عن تنظيم داعش). فمحور الممانعة لم يكتف بتبني سردية الحرب على الإرهاب، بل تطرف فيها إلى درجة السعي إلى توسيع أكبر لمعنى الإرهاب، وليس هذا فقط، بل بتنا نراهم يستخدمون خطاب (الشرق الأوسط الجديد) أيضاً. لننتقل الآن إلى الأسطورة الكبيرة التي يحاول الأمين تأطير التدخل الروسي من خلالها، أي باعتبارها تحد للهيمنة الأميركية، ومبشرة بنهاية عصر القطب الواحد. منذ هزيمة الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وروسيا في تراجع مستمر أمام التقدم والتوسع الأميركي والأوروبي. أول علامات هذا التراجع هي تفكك الاتحاد السوفياتي نفسه، والعلامة الثانية، هي انتقال عدد من الدول التابعة للاتحاد السوفياتي إلى حلف الناتو أو انضمت للاتحاد الأوروبي. إن الناتو والاتحاد الأوروبي وصل إلى تخوم روسيا الاتحادية، إلى أوكرانيا وجورجيا، وروسيا بالكاد تستطيع تأمين هذه التخوم. فإذا نظرنا إلى الأمر من التسعينات إلى اليوم، فإننا نجد توسعاً وتنامياً لكل من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي وتوسع للرأسمالية (سقوط الغالبية الساحقة للاقتصادات الشيوعية من يوغسلافيا السابقة مروراً بالصين إلى روسيا نفسها)، ونجد في المقابل تراجعاً وتدهوراً لروسيا. فكل هذه الأحاديث عن بداية انهيار عصر القطب الواحد وما إلى ذلك لا معنى لها أبداً. آخر الملاحظات، وأهمها، هي الازدواجية في تناول هذه الأحداث، فالتدخل الروسي في نهاية الأمر هو تدخل أجنبي، إنه مواجهة هيمنة بالارتماء في أحضان هيمنة أخرى، وهو بهذا الشكل يجب أن يكون مرفوضاً لكل من لديه موقف مبدأي ضد التدخل الخارجي. كما أن التدخل الروسي دليل على عجز النظام وحزب الله على حسم المعركة، وهو العجز الذي لا تكف الآلة الإعلامية لهذين الطرفين على نفيها باستمرار. ومن أهم مظاهر الازدواجية هذه هو أنهم في المناطق التي يكون فيها حلفاؤهم السياسيين في موضع قوة، ينظرون إلى المعارك والتحركات العسكرية نظرة سياسية بحتة، نظرة تتكلم بلغة المصالح وصراع القوى وعن الممكن والأفضل من دون أي التفات للضحايا المدنيين واستهدافهم ولا بالسيادة ولا بأي نوع من القيم، هم في هذه المناطق واقعيون سياسيون. لكن في مناطق أخرى، عندما تكون القوى السياسية التي يدافعون عنها هي الأضعف، تجدهم يتحولون فجأة إلى ثوّار، ويستخدمون لغة المستضعفين والثورة والمقاومة ومواجهة الهيمنة، ويركزون على إظهار استهداف الطرف الآخر للمدنيين والأطفال باعتبارها مبررات كافية لنفي الشرعية عنه. والسؤال الموجه إلى الذين لا زالوا يؤمنون بصدقية مثل هذا المحور، هو: ماذا تبقى من الممانعة والمقاومة إذا كانت السردية الرئيسة، التي تشرعن سلوكيات هذا المحور، تقوم على تبنٍ كلي للسردية الأميركية الإمبريالية من جهة، وعلى مخالفة لأبسط المبادئ والقيم التي ينادي بها، وعلى الكيل بمكيالين والازدواجية؟

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه