2015-10-10 

«لماذا لم يدقوا جدران الخزان»

مصطفى زين

عُثر على 71 جثة أو أكثر لمهاجرين في شاحنة في النمسا، فيما يلتقي قادة أوروبا وغرب البلقان في فيينا، لمناقشة تدفّق اللاجئين الذين يحاولون يائسين الوصول إلى «الجنة». برر المسؤولون عن الحدود عدم إحصاء الجثث بدقة، بأنها كانت متعفّنة. أي أن المهاجرين «غير الشرعيين» ماتوا قبل وقت طويل وهم يعبرون حدود البلدان، من دون أن يجرؤوا على الصراخ أو دق جدار «خزان الشاحنة التي تقلّهم»، بتعبير غسان كنفاني في روايته «رجال تحت الشمس»، خوفاً من افتضاح أمرهم. في رواية كنفاني، ثلاثة فلسطينيين لكلّ منهم سبب للهروب من واقعه. أبو قيس فقد وطنه ويعيش مشرداً من مخيم إلى مخيم، يحلم بالعودة إلى فلسطين لكنه لا يعرف كيف. أسعد، مناضل يهرب من الطغيان بحثاً عن الحرية. ومروان يغادر هرباً من مسؤولية إعالة عائلته. ثم سائق الشاحنة أبو الخيزران (القائد) الذي لا همّ له سوى الحصول على المال بأي طريقة. يغادر الجميع البصرة متّجهين إلى الكويت في لهيب هذه الصحراء التي لا ترحم. ويدور حوار بين الثلاثة المختبئين في خزان الشاحنة. حوار في السياسة وفي أسباب الفرار. ونقاش في كيفية التخلّص من حالة الاختناق في الشاحنة يتحوّل إلى هذيان. لكنّ أياً منهم لا يجرؤ على دقّ جدار الخزان، فيموتون مفضِّلين هذه النهاية على مواجهة السلطة المتمثّلة في حرس الحدود. هي الرواية ذاتها تتكرر أمام أعيننا. لكنها ليست نابعة من خيال كاتب. وليست مجرد رمز لتشرّد شعب فلسطين ولجوئه إلى البلدان المجاورة هرباً من المستوطنين اليهود، بل صور ناس من لحم ودم، تعرضها شاشات التلفزيون. أطفال وشيوخ ونساء يهربون من أوطانهم، خوفاً من طغاة يقتلون لمجرد القتل، مرة باسم الدين، ومرة باسم الوطنية. مجتمعات بكاملها تحولت إلى تجارة الموت. عندما دقت شعوب عربية، خلال ما سُمي ربيعاً، «جدار الخزان» وخرجت من «الشاحنة» إلى فضاء الحرية، وجدت نفسها في مواجهة مع الاستبداد الراسخ في المجتمعات. وأصبح المستبدون ثواراً يستعيرون التاريخ المقدس لتأبيد بقائهم في السلطة، ونشر «ثقافتهم» في بلدان كان الديكتاتور فيها واحداً فأصبح بالآلاف، فلمَ لا يهرب الباحثون عن الحرية أو الجائعون لتحصيل لقمة العيش، أو اليائسون، أو البائسون؟ لكن إلى أين؟ إلى أوروبا، هذه القارة القديمة المزدهرة. إلى حضن الاستعمار القديم يستنجدون به للتخلّص من واقعهم. يهاجرون براً وبحراً، سراً وعلناً. يهربون من قدَر إلى قدَر. بعضهم يدقّ «جدار الخزان» ويموت. وبعضهم لا يجرؤ على دقّه ويموت أيضاً.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه