2015-10-10 

هل هى حرب عملات عادية؟

محمد العريان

بعد ستة أعوام ونصف العام من الأزمة المالية العالمية، لاتزال البنوك المركزية ـ فى الاقتصادات الناشئة والمتقدمة على حد سواء ـ تتبع سياسة نقدية نشطة على نحو غير مسبوق؛ ولايمكن التنبؤ بها. فماهى المسافة التى مازالت أمامنا فى هذه الرحلة الاستثنائية؟ ففى الشهر الماضى وحده، خفضت استراليا والهند والمكسيك، وغيرها أسعار الفائدة. وخفضت الصين مستوى الاحتياطى الالزامى للبنوك. كما خفضت الدنمارك سعر الفائدة الرسمى على الودائع. وأجرت حتى معظم البلدان الحريصة على الاستقرار، تحركات غير متوقعة. فإلى جانب تخفيض أسعار الفائدة، تخلت سويسرا فجأة عن سياسة ربط قيمة الفرنك جزئيا بقيمة اليورو. وبعد بضعة أيام، غيرت سنغافورة بشكل غير متوقع نظام سعر الصرف، أيضا. بل إن البنك المركزى الأوروبى تعهد بتطبيق برنامج كبير ومفتوح نسبيا لشراء الأصول على نطاق واسع. وذلك، على الرغم من تزايد التحذيرات من أن الحافز النقدى ليس كافيا لتعزيز نمو دائم، وأنه يشجع على الإفراط فى المجازفة فى الأسواق المالية، وهو ما يمكن أن يهدد فى نهاية المطاف الاستقرار الاقتصادى والازدهار (كما حدث فى عام 2008). وحتى مجلس الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى، الذى يترأس اقتصادا يفوق أداؤه بكثير نظراءه فى دول العالم المتقدمة، أكد على ضرورة "التريث" عندما يتعلق الأمر برفع أسعار الفائدة. وسيكون من الصعب الحفاظ على هذا الموقف، إذا صاحب استمرارتوفير فرص العمل، وارتفاع الأجور المطلوب بشدة. وتعكس هذه الجولة الجديدة من نشاط البنوك المركزية، استمرار المخاوف بشأن النمو الاقتصادى. وعلى الرغم من كمية الحوافز النقدية التى لم تكن متخيلة من قبل، لايزال الانتاج العالمى أقل بكثير من التوقعات، وتواجه التوقعات نفسها خطر خفضها. ومما يزيد الطين بلة، تزايد المخاوف بشأن الانكماش فى منطقة اليورو واليابان، بسبب ضعف الطلب وارتفاع الديون. ومع توقع هبوط الأسعار، يمكن أن تؤجل الأسر قراراتها الاستهلاكية، كما يمكن أن ترجئ الشركات قراراتها الاستثمارية، وهو ما يدفع بالاقتصاد إلى دوامة هبوط سيكون من الصعب جدا الإفلات منها. وإذا كان ضعف الطلب وارتفاع الديون العاملان الوحيدان فى اللعبة، فإن أحدث جولة من جولات التحفيز النقدى ستكون دقيقة من الناحية التحليلية. لكنها ليست كذلك. فلا تزال العوائق الرئيسية أمام النمو الاقتصادى، دون معالجة إلى حد كبير. ولا تستطيع البنوك المركزية ـ وحدها ـ التصدى لها. وبالنسبة للمبتدئين فى مجال النمو الاقتصادى، لا تستطيع البنوك المركزية توفير العناصر الهيكلية، اللازمة لدفع الانتعاش القوى والمستدام، مثل استثمارات البنية التحتية، وتطوير أسواق العمل، وإصلاحات الموازنة لدفع النمو. كما لا يمكنها إصلاح الخلل الكلى فى الطلب ــ وهو ما يمثل التفاوت بين رغبات الأسر والشركات والحكومات، وقدراتها على الانفاق. ولا تستطيع القضاء على المديونية الهائلة التى تعرقل الاستثمار الجديد والنمو. ولايستغرب، إذن، أن أدوات السياسة النقدية لم يعد من الممكن الاعتماد عليها فى تحقيق النمو الاقتصادى، والتضخم المعتدل، والاستقرار المالى. وقد اضطرت البنوك المركزية إلى اتباع مسار سياسى، ما زال بعيدا عن المثالية ــ لأسباب ليس أقلها أنه لايقدم حلا لحرب العملات غير المعلنة. وتخشى البنوك المركزية ـ باستثناء بنك الاحتياطى الفيدرالى ـ من أن تؤثر عملة مفضلة على القدرة التنافسية للشركات المحلية كثيرا، على نحو يتطلب التدخل. ولاشك أن عددا متزايدا من هذه البنوك يعمل بنشاط لإضعاف عملاته. واضاف "التفاوت" فى الأداء الاقتصادى والسياسة النقدية بين ثلاثة من أهم اقتصادات العالم ــ منطقة اليورو، واليابان، والولايات المتحدة ــ المزيد من الارتباك لبقية العالم، الأمر الذى انعكس بشكل كبير على المشروعات الصغيرة، الاقتصادات المفتوحة. وكانت الإجراءات المفاجئة التى اتخذتها سنغافورة وسويسرا استجابة مباشرة لهذا التفاوت، كما كان قرار الدنمارك لوقف جميع مبيعات الأوراق المالية الحكومية، من أجل دفع أسعار الفائدة إلى الانخفاض، ومواجهة ضغوط الارتفاع على الكرونة. وبطبيعة الحال، لايمكن أن تنخفض جميع العملات ضد بعضها البعض فى نفس الوقت. ولكن الموجة الحالية من الجهود، على الرغم من كونها بعيدة كل البعد عن المثالية، يمكن أن تستمر لفترة من الوقت، طالما يتم استيفاء شرطين على الأقل: الشرط الأول، استعداد أمريكا المستمر للتسامح مع الارتفاع الحاد فى سعر صرف الدولار. وهذا أمر غير مضمون، إذا وضعنا فى الاعتبار تحذيرات الشركات الأمريكية من تأثير قوة الدولار على مكاسبها ــ ناهيك عن أنها ستؤدى إلى تراجع السياحة داخل أمريكا، وتدهورالميزان التجارى. ومع ذلك، فما دامت الولايات المتحدة تحافظ على وتيرة النمو الشامل وتوفير فرص العمل – وهى نتيجة مجدية، نظرا للمساهمة الصغيرة نسبيا التى يقدمها النشاط الاقتصادى الأجنبى فى الناتج المحلى الإجمالى للبلاد – فمن المستبعد أن تثير هذه التطورات ردود فعل سياسية لفترة طويلة. ولاشك أن العلاقات الأمريكية التجارية المعقدة مع بقية العالم، تجعل من الصعب بشكل خاص تحفيز دعم سياسى كبير للحمائية. أما الشرط الثانى لخفض قيمة العملة على نطاق واسع، فهو استعداد الأسواق المالية لتحمل المخاطرة، قبل التحقق من صحتها وفقا للقوانين الأساسية للاقتصاد. ومع ضغط البنوك المركزية ــ أفضل صديق للأسواق المالية هذه الأيام ــ من أجل تحمل مخاطر مالية كبيرة ومتزايد (كوسيلة لتحفيز تحمل مخاطر الاقتصاد الإنتاجى)، وهذا ليس أمرا سهلا. ولكننا نأمل فى أن ينجح، بالنظر إلى ما يمثله ذلك من خطر. وعلى أى حال، سيكون على البنوك المركزية التراجع فى نهاية المطاف. والسؤال هنا حول مدى صعوبة تحطيم إدمان الاقتصاد العالمى للحلول الجزئية القائمة على السياسة النقدية؛ وعما إذا كان الانزلاق إلى حرب عملات يمكنه تسريع الجدول الزمنى للحل. *نقلا عن جريدة "الشروق" المصرية

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه