2015-10-10 

باتريشيا كرون: رحيل منقّب فضولي

حسام عيتاني

رحلت باتريشيا كرون، دارسة الإسلام المبكر وعصره الكلاسيكي، بعدما أثارت الكثير من المعارك والضجيج حول طروحاتها وآرائها، فأغضبت متخصّصين من شتى الانتماءات الفكرية والأيديولوجية والقومية. تعدّدت أسباب وجِهات الاعتراض على كتابات كرون، التي توفيت يوم السبت في 11 تموز (يوليو). دانيال بايبس المتطرّف في عدائه للعرب وتأييده لإسرائيل والمتخصص في التاريخ المملوكي في الوقت ذاته، انتقد كتابها «عبيد على صهوات الخيول»، الذي تتناول فيه ظاهرة الجنود العبيد في الدولة العربية - الإسلامية وتطوّرها ووصول هؤلاء الى أعلى مراتب السلطة ثم تأسيسهم دولة حكموها مئات الأعوام (دولة المماليك). ويرى بايبس أن كرون أخفقت في دراسة الجوانب الاجتماعية التي أتاحت تفاقم هذه الظاهرة وتمدّدها. هشام جعيط، المؤرخ التونسي، أخذ عليها عجزها في كتابها «تجارة مكة»، عن تحويل اطلاعها الكبير على التاريخ العربي الى استنتاجات منطقية تساهم في إنتاج معرفة جديدة، إضافة الى رفضه منهجها البحثي برمته. ولم تتوانَ مترجمة الكتاب ذاته عن الأنكليزية أمال الروبي، عن تقريع الكاتبة تقريعاً قاسياً وإرشادها الى طريق الصواب، من خلال هوامش وحواشٍ طويلة تصلح أن تكون كتاباً مستقلاً في الرد على «تجارة مكة» من وجهة نظر التقليد العربي التاريخي. كتب كرون التي وضعتها وحدها مثل «الفكر السياسي الإسلامي في القرون الوسطى» أو بالشراكة مع آخرين مثل «خليفة الله» مع مارتن هندز، تعرّضت أيضاً لانتقادات في المنهج والمضمون والخلاصات. بيد أن العاصفة التي أطلقها كتابها المشترك مع مايكل كوك بعنوان «الهاجرية»، فاقت كل ما سبقت الإشارة إليه من انتقادات. يقوم الكتاب الصادر عام 1977، على مقولة بسيطة: بما أن التاريخ العربي – الإسلامي تأخّر تدوينه الى ما يزيد عن مئة عام من الأحداث التي يسجّلها في مجال السيرة النبوية والأحاديث، فلا يمكن الاعتماد عليه في وصف أحداث الفترة التأسيسية تلك في الإسلام. لذلك، ينبغي الالتفات الى المصادر الأخرى التي تقدّمها الآثار وكتابات مؤرخي الدول والشعوب المجاورة، لرسم الصورة الحقيقية للأحداث التي وقعت في القرن الهجري الأول. وصلت كرون وكوك الى استنتاجات، من بينها أن الإسلام لم يظهر في مكة بل في مكان ما بين البادية الأردنية الحالية وصحراء النقب، إضافة الى نفي صحة العديد من الوقائع والنصوص، والقول إن الكثير من أفكار الإسلام جرى نسخها من جماعة السامريين، الذين ما زالت أعداد قليلة منهم تقيم في الضفة الغربية. غنيّ عن البيان أن الكتاب قوبل برفض شبه عام من المتخصصين والمؤمنين سواء بسواء، كل لحججه ومسوغاته. وتوالى النقد الذي بيّن قصور هذه المقاربة عن الإحاطة بحدث كانت له عواقب عالمية مستمرة حتى اليوم مثل ظهور الإسلام. بعد أعوام، تراجع كوك وكرون عن مضمون الكتاب (الذي لم تُعد طباعته منذ 1980، بسبب رفض الكاتبين، كما لم تجر ترجمته الى العربية باستثناء ترجمة سيئة جداً يجري تداولها على الإنترنت)، وأقرا بأنهما أساءا فهم وتفسير عدد من المراجع التي استندا إليها. لكن الضجة التي أحدثها الكتاب لم تنحسر مع التوقّف عن طباعته والنقد الذاتي من الكاتبين. لقد حرّك «الهاجرية» بركة دراسات الإسلام المبكر الراكدة. ووفق المؤرخ فريد دونر، في ورقة أعدها في ذكرى مرور عشرين عاماً على صدور الكتاب، يعود الى كرون وكوك الفضل، على رغم الأخطاء السالف ذكرها، في صدور العشرات من الدراسات التي عمل عليها جمع كبير من المؤرخين واللغويين وعلماء الآثار حول تلك المرحلة الحاسمة في نشوء الإسلام وتحوّله الى دين عالمي. لقد أعقبت صدور «الهاجرية» أعمال ضخمة لإعادة النظر في المرويّات المدونة في وقت متأخر نسبياً، والتدقيق في صحتها ومقارنتها بمصادر أثرية. وينسب دونر الى ألبرت حوراني، صاحب «تاريخ المجتمعات العربية»، أن كرون وكوك «أجابا إجابات خاطئة عن الأسئلة الصحيحة التي طرحاها». في وسعنا القول إن مقاربة «الهاجرية» لمسألة تكوين الهوية العربية الإسلامية في مناطق كانت تعاني من أزمات حضارية بعد خضوعها الطويل للاحتلالين البيزنطي - الروماني أو الفارسي، وعجز الحضارة الهلنستية التي كانت سائدة في شرق المتوسط ومصر، على سبيل المثال، عن الامتداد الى خارج الحواضر الكبيرة، ورفض الكنائس المحلّية لمساعي السيطرة السياسية والأيديولوجية المغطاة بغطاء اللاهوت من كنيسة القسطنطينية، من النقاط التي أشار كرون وكوك إليها وتابعها آخرون بعدهما من ضمن السياق الذي بدآه. يجوز التوسّع في ذكر أعمال كرون الأخرى، التي استدعت جدالاً لم يخل من حدة، مثل النقد الذي تعرّض له «الفكر السياسي الإسلامي»، وتناولها إشكالية السلطة والدولة، والعلاقة بين الفقهاء والسلاطين، ومواقف المذاهب الفقهية والفلسفية وخلفياتها القومية والسياسية. ولعلّ اعتبارها المعتزلة «فوضويي القرن التاسع» بسبب قبولهم أولاً بتعدّد مراكز الخلافة ثم قول بعض متكلّميهم بعدم حتمية الدولة ولا ضرورتها، من النقاط التي جعلت عدداً من مناصري الاعتزال المعاصرين يفتحون النار على كرون. على صعيد ثانٍ، ثمة وجاهة في اعتبار حفر كرون على مدى أربعين عاماً تقريباً، في المناطق المحظورة والخطرة من التراث العربي - الإسلامي وميلها الى تعميم الاستنتاج والذهاب فيه بعيداً، من دون الانتباه الى هشاشة الأرضية التي تقف عليها (مع القدرة على التراجع أحيانا)، سبباً كافياً لغضب من أوكلوا لأنفسهم الولاية على التراث، ناهيك عن أن من يقوم بهذه المجازفة امرأة في حقل يحتكره الرجال

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه