رحّالة الصيف

تعودت في مثل هذا الوقت من بعض الأعوام أن أعدّ لجنابكم سلسلة لها علاقة بروح الإجازات والسفر. المجموعة الأولى كانت بعنوان «حكايات للصيف»، والثانية «مدن الصيف» التي نُشرت العام الماضي. هذا العام أعددت «رحّالة الصيف». وكي لا تتناقض، أو تكرر، بعض ما ورد في كتابي «قافلة الحبر» عن الرحالة القدامى الذين جاءوا إلى بلادنا، سوف أخصص السلسلة للكتّاب العرب الذين سافروا إلى بلاد الآخرين، وكتبوا لنا منها. وهؤلاء كانوا صحافيين أو أكاديميين، لم «يحترفوا» الترحُّل والاستكشاف، وإنما كتبوا الأسفار في مراحل معيّنة من حياتهم وعطاءاتهم الفكرية. وسوف نكتشف، مثلاً، أن الدكتور محمد حسين هيكل، الذي توافق النقّاد على أنه صاحب أول رواية عربية بالمعنى الكلاسيكي، كان إلى جانب ميزاته العديدة والعميقة، رحّالة من الطراز الأول، إضافة إلى منزلته الأولى كإنسان من ذلك الجيل المصري الذي يشبه صفًا من أعمدة المصابيح تتألف كل حلقة من سيرة الكاتب، التي قد تمتد أو تقصر حسب المتوافر، ومن قطعة مختارة من أعماله. وقد حرصت في الاختيار على أن تتعدد النصوص بدل أن تتشابه. فإذا اخترنا «البندقية» من الدكتور هيكل، فقد اخترت رحلة في الصحراء من ذلك الرائع الآخر الدكتور مصطفى محمود. ولعله غاب وهو يعرف مدى الأفضال التي تركها على فقراء المسجد الذي بناه وحمل اسمه، لكنه لم يعرف بفضله عليَّ، يوم كنت أقرأه قبل أن أدخل المهنة وأحلم بأنني سوف أقلده ذات يوم. لكن مصطفى محمود كان أغنى من أن يُقلَّد، وأعلم من أن يُجارى. كان ذلك جيل المعارف بما يوحي اسمها من زواخر وجهد وتكرُّس وشغف. وفي إعداد هذه السلسلة شعرت بمتعة فائقة وأنا أعود إلى النصوص التي ملأت عليَّ الأحاسيس وأنا مقبل على اللذّة الوحيدة التي تفوق لذّة الكتابة: القراءة. وبعدما فرغت من إعدادها، شعرت بعذاب ضمير. فالواقع أن كتابتها كانت مجرد ذريعة للسفر حول كل المرافئ، كمثل طائر النورس المحوِّم فوق أرزاقها. هل كان أمين الريحاني رحّالة، أم مؤلفًا، أم شاعرًا، أم ممثلاً مسرحيًا، أم بائعًا في دكان؟ هناك سؤال أدق: ماذا لم يكن أمين الريحاني؟ ماذا لم يكن الدكتور حسين فوزي؟ ماذا لم يكن أنيس منصور، الذي جال حول العالم في 200 يوم بدل رحلة الثمانين يومًا الخيالية التي قام بها الفرنسي الشهير جول فيرن؟ ما هذه المتعة المذهلة؟ الكتابة والسفر؟ الموانئ والكتابة عنها؟ الانطباعات وتدوينها؟ التعرُّف على الناس والتاريخ والحضارات في مواقعها؟ كانت لي متعة السفر في الأماكن والمجاهل والبعيد. والآن صارت المتعة أكثر عمقًا. أصبحت قراءة المسافرين الآخرين وتجاربهم وكيف رأوا الأشياء التي شاهدتها، ولم أرها. إلى اللقاء..