2015-10-10 

سعود الفيصل كما عرفته

رائد خالد قرملي

كانت أول مرة ألتقي بها فقيد الأمة والوطن الأمير سعود الفيصل، يرحمه الله، في نهايات عام 2000م على ما أذكر، حيث كان يرأس لجنة شكلها ولي العهد حينذاك (الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز يرحمه الله) وضمت عددًا من المتخصصين في العلوم السياسية من كافة الجامعات السعودية، وكنت من بينهم، وكلفت اللجنة ببحث موضوع مهم من مواضيع السياسة الخارجية للمملكة. وكانت انطباعاتي الأولية بعد لقائنا بسعود الفيصل أنه ابن أبيه، فما حباه الله به من مهابة وحكمة ووقار، وما تتسم به كلماته المتدفقة عفويًا من دقة وبلاغة وإيجاز، وما يراه المرء عبر نظرات عينيه الحادة الثاقبة من ذكاء وتركيز، كل هذا يمكن إجماله بأنه صفات فيصلية لا يمكن أن تكون أشد وضوحًا مما هي عليه. وبعد عام تقريبًا، أي في أواخر عام 2001م، تلقيت اتصالاً هاتفيًا مفاجئًا من وزارة الخارجية يفيدني بتحديد موعد لي لمقابلة سعود الفيصل في مكتبه بالرياض. وكانت نتيجة اللقاء انتقالي من العمل الأكاديمي في قسم العلوم السياسية بجامعة الملك سعود إلى العمل الدبلوماسي في وزارة الخارجية، حيث أكرمني الله تعالى بالعمل ضمن مجموعة مختارة قليلة العدد كانت ترافق وزير الخارجية في جميع لقاءاته واجتماعاته ورحلاته وسفراته، وما أكثرها. مرحلة لم تتجاوز سنين معدودة لكنها علمتني ما لم تعلمني إياه الكتب الأكاديمية والنظريات السياسية، وأخذتني في رحلة ممتعة بقدر ما هي شاقة، رافقته فيها وصحبه الكرام من موسكو وبكين وطوكيو شرقًا إلى نيويورك وواشنطن غربًا، ومن أوسلو ولندن شمالاً إلى بوينس آيرس وريو دي جانيرو جنوبًا. وسنحت لي الفرصة خلال هذه الرحلة الممتدة من الاجتماعات واللقاءات وكتابة التقارير والمحاضر ومشاريع الكلمات بأن أتعرف على سعود الفيصل عن قرب، بل كنت ومن معي من أعضاء هذه المجموعة نكاد نعيش يومنا وليلنا مع سعود الفيصل، يرحمه الله، لكثرة نشاطاته ولقاءاته بما في ذلك أيام العطلة الأسبوعية والأعياد، ولتعدد سفراته وطول المسافات التي تقطعها طائرته. وسأحصر حديثي في ثلاثة جوانب أساسية من شخصية سعود الفيصل، كما عرفتها، قلما اجتمعت عند أحد من الناس، وهي المتعلقة بسعود الفيصل الإنسان، وسعود الفيصل رجل الدولة، وسعود الفيصل المثقف. أما سعود الفيصل الإنسان فحسبي أن أذكر أني لم أسمعه طيلة هذه السنين يتلفظ بكلمة جارحة أو معيبة بحق أي شخص مهما كانت حدة الموقف أو فجور الآخرين في الخصومة والعداء. وكان يرحمه الله بحق مثالاً يحتذى في الرفعة والرقي واللباقة والترفع عن الصغائر ومراعاة مشاعر الآخرين لأبعد الحدود. كان شديد الملاحظة والحساسية لأي موقف يمكن أن يفسر بأن فيه تعاليًا على الآخرين أو خدشًا لكرامتهم أو مساسًا بإنسانيتهم. في إحدى رحلاتنا لدولة إسلامية احتفى بنا السفير السعودي في مأدبة عشاء وكان أحد السعوديين من كبار السن يقدم له القهوة العربية، فسأله عن عمله فأجابه هذا أنه مدرس في المدرسة السعودية، فما كان منه إلا أن قال له بصوت جهوري أن سيد القوم خادمهم، وأوعز إلى السفير بأن يقدم لنا القهوة بنفسه. وفي رحلة أخرى لعاصمة الضباب لندن كنا في صدد الصعود للطائرة للمغادرة وكان المطر ينهمر بغزارة والريح عاصفة وكلنا مستعجلون لصعود سلم الطائرة، فالتفت إلينا وسألنا أين هم راكبو الدراجات النارية من الشرطة البريطانية الذين فتحوا لموكبنا الطريق إلى المطار فأشرنا إليه أنهم هناك على بعد 100 متر تقريبًا، فما كان منه إلا أن يمشي إليهم وسط هذه الأجواء العاصفة والأرض المنزلقة ليصافحهم شخصيًا ويشكرهم على جهودهم. ولا أعتقد أنه يرحمه الله كان يكره شيئا قدر كراهيته للنفاق والمجاملات والمبالغة في المديح والتزلف. جاءتني مرة معاملة محالة منه لتقييم مشروع كتاب ضخم أعده كاتب عربي جمع فيه جل تصريحات وكلمات سعود الفيصل على مدار ثلاثة عقود وتناول كلا منها بشرح توثيقي إعلامي مقتضب، فكتبت أن الكتاب ليس أكاديميًا أو علميًا لكنه مفيد للتوثيق والتأريخ، فوجه بخط يده أنه لا يرى أي فائدة من نشر الكتاب، وكانت هذه نهاية الموضوع. أما سعود الفيصل رجل الدولة فلم أعرف في حياتي من سخر كل وقته وجهده وعمره لخدمة بلادنا الحبيبة والقضايا العربية والإسلامية مثله. ورغم أنني أصغره بعقدين من السنين فإني كنت أجد مشقة وصعوبة في مجاراته، فكنت ألهث وأهرول لأجاري مشيته العادية، ويغلبني النعاس والإرهاق حين أواكب مواظبته لساعات طوال في العمل، رغم يقيني أنه يكابد من الآلام الجسدية والأعراض الصحية ما لم أكن أعاني من مثله. ورغم الساعات الطوال التي كنا نقضيها في الطائرة الخاصة المقلة له، لم أشاهده يومًا يترك مقعده ويدخل غرفة نومه المعدة والمجهزة له في الطائرة، بل كان السرير يستعمل لوضع ملابسه عليه فقط. رحلة الذهاب كان يقضيها في إنجاز العمل معنا ووضع التعديلات واللمسات النهائية على ما سيلقيه عند الوصول من كلمات أو ما سيبحثه من مواضيع خطيرة. وأما رحلة الإياب فكان يقضيها في إنجاز العمل معنا في إعداد التقارير الواضحة والتفصيلية عما دار في الرحلة من اجتماعات ولقاءات بحيث لا نصل إلا والبرقيات الموجهة للملك جاهزة للإرسال فورًا. ومن صفات رجل الدولة عند سعود الفيصل قدرته الأسطورية في التحكم بأعصابه ورباطة جأشه وسرعة بديهته في كل الأوقات بلا استثناء. لم يكن يرحمه الله يقول إلا ما يريد قوله تحديدًا وبكل دقة في اختيار الألفاظ وتركيب الجمل وتسلسل المعاني. بل حتى مزاحه الجميل ودعاباته الراقية وقصصه المسلية كانت دومًا مقصودة وموجهة بدقة نحو هدف ما. ولا أظنني أنا ومن رافقه يمكننا أن ننسى كيف كان يتعمد أحيانًا الظهور بمظهر المنفعل والغاضب والمستاء بل والمنسحب من أي اجتماع ليرسل رسالة محددة ومؤثرة لبقية المجتمعين في الوقت الذي كان يخفي بدهاء وإتقان ابتسامته الداخلية! وبالمقابل كان يرحمه الله يحرص أشد الحرص على الحفاظ على ما تتمتع به المملكة وملوكها من جدية ومصداقية والتزام كامل بكل ما يصدر عنهم من مواقف أو عهود أو وعود. أذكر في أحد الاجتماعات العربية أن الأمين العام للجامعة العربية أبلغ وزير خارجية بلد عربي، كان نظامه يفجر بالخصومة ضدنا، بأن الرئيس الأميركي حينها قد أبلغهم شفهيًا بكيت وكيت، فما كان من وزير خارجية هذا البلد إلا أن قام وتوجه لمقعد سعود الفيصل وأسر إليه أن رئيسه طلب تأكيد مصداقية الرسالة الأميركية من سعود الفيصل دون سواه، فوجهنا بمهاتفة وزيرة خارجية الولايات المتحدة فورًا، حتى لو كان الوقت في أميركا حينها قبل موعد استيقاظ الناس من نومها، للتأكد بدقة من مضامين الموقف الأميركي قبل إجابة المسؤول العربي بذلك. إذا كانت هذه مصداقيتنا عند الخصوم، فما بالك بها عند الأصدقاء. وقد تعلمت من سعود الفيصل رجل الدولة ما لم أتمكن من معرفته عبر الخبرة الأكاديمية. تعلمت منه مرارًا وتكرارًا، وعبر اللقاءات المغلقة مع كبار مسؤولي الدول العظمى، أن دفاع المملكة الدائم عن قضايا الأمة العربية والإسلامية لم يكن لأغراض الدعاية والإعلام والمزايدة كغيرنا، بل كان التزامًا عميقًا وكليًا ومخلصًا بانتمائنا العربي وهويتنا الإسلامية لا مساومة عليه ولا تراجع عنه. كنا داخل هذه الجلسات المغلقة والمباحثات السرية فلسطينيين أكثر من إخواننا الفلسطينيين، وعروبيين أكثر من أساطين القومية العربية، وإسلاميين أكثر بكثير من جماعات الإسلام السياسي. كما تعلمت منه يرحمه الله التفريق الواضح بين مرحلة رسم وبلورة السياسات ومرحلة تنفيذها، ففي الأولى كان واجبنا تمحيص كافة الخيارات والاحتمالات والبدائل والمفاضلة بينها والتعبير عن مرئياتنا بكل وضوح وصراحة مهما كانت مختلفة عن توجه سائد أو موقف سابق، أما حين يصدر صانع القرار قراره فإن واجبنا التنفيذ الدقيق والأمين والمتفاني بل والمتحمس للقرار بكل حذافيره، بغض النظر عن أي اعتبارات أو آراء شخصية. وتعلمت منه يرحمه الله أن أفكر في النهايات والمآلات والنتائج العملية قبل اتخاذ أي موقف. وأما سعود الفيصل المثقف فإن سعة اطلاعه وتنوع معارفه وعمق قراءاته كانت مما لا يمكنني تصور اجتماعه لأي إنسان. كان يرحمه الله موسوعة في الشعر الإنجليزي والشعر العربي الفصيح والشعر الشعبي أو النبطي في آن. وكان من السهل عليه أن يستحضر وقتما يشاء اقتباسًا من شكسبير وبرنارد شو، أو من الحكم العربية التقليدية، أو من الموروث الشعبي النجدي والحجازي. وكان دومًا يأتينا بمصطلحات وكلمات إنجليزية لا يعرفها أحد منا، وفينا كثيرون ممن درسوا في أرقى الجامعات الأميركية والبريطانية سنين كثيرة. بل لا أنسى ذلك اليوم الذي كنت حاضرًا معه في لقاء بوزير الخارجية الياباني حينها، حيث عبر الأمير بالإنجليزية عن تشابك وتكامل علاقات بلدينا بمصطلحات لم أفهم منها شيئا، لكني وجدت الوزير الياباني بالغ السرور بها، فسألته بعد اللقاء عنها، فأوضح أنها مصطلحات تصف بدقة نوعًا مميزًا من عقدة النسيج للسجاد الحرير كانت مشهورة في اليابان منذ قرون خلت! * سفير خادم الحرمين الشريفين لدى إيطاليا ومالطا من جريدة الشرق الأوسط

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه