2015-10-10 

أولويات الوعي العربي وأولويات العمل العربي

رضوان السيد

ضرب لي أحد الموظفين الكبار بوزارة الخارجية الألمانية، مَثَلاً على بُعْد نظر الألمان، وإدراكهم للأولويات الصحيحة، زيارة وزير الخارجية الألماني شتاينماير لقطاع غزة، وقال إن لهذه الزيارة بُعدين أساسيين: البُعْد الإنساني لأن غزة مُحاصرة من سنوات. والبُعد السياسي، حيث يريد الألمان ومن ورائهم الاتحاد الأوروبي التنبيه إقليميًا ودوليًا إلى ضرورة العودة لمحادثات السلام، وصولاً لحلّ الدولتين. وقلتُ له: إنّ ذهاب شتاينماير إلى غزة عملٌ مهمٌّ، وهو ولا شكّ لن يُرضي نتنياهو والحكومة الإسرائيلية. ولا أُريد التقليل من قيمة الزيارة بما ذكرته وكالة الأنباء الألمانية، أنّ ألمانيا سلّمت أخيرًا تجهيزات عسكرية متقدمة لإسرائيل في الجو والبحر، وهي منحةٌ، تُضافُ إلى «مساعدة» بمئات ملايين اليوروات. بدلاً من ذلك أريد الإشارة إلى مساعدة الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي (وفي الطليعة ألمانيا) حكومة محمود عباس على الصمود، والمساعدات الإنسانية لغزة. وإنني إذ أُشيد بذلك كلّه، أعرف أنك تشير من طرفٍ خفي إلى أن الاهتمام بالقضية الفلسطينية تراجع لدى العرب لمصيرهم إلى اعتبار أولوياتٍ أخرى. والواقع أنّ لدى العرب مشكلة كبرى تدوَّلت منذ العام 1948، وما استطاعوا هم ولا استطاع المجتمع الدولي إيجاد حلٍّ لها، وهي قضية استعمار فلسطين. وهناك مشكلتان أُخريان ظهرتا وتفاقمتا خلال العقدين الأخيرين: مشكلة التطرف (الجهادي) الإسلامي، الذي يضرب الدول والمجتمعات والعالم - ومشكلة التدخل الإيراني الذي يضرب الدول والمجتمعات أيضًا، فالأولوية التاريخية للقضية الفلسطينية لا تزال حاضرةً في الوعي، وهي تتمثل بدعم حكومة محمود عباس بكل سبيل. ومنذ العام 2007 عندما سيطرت حماس على غزة، نحن العرب مختلفون بشأن هذا الأمر، لكنّ هناك دولاً عربيًة لا تزال تساعد أهل غزة أو سلطة حماس. ونحن على غمٍ وهمٍّ للمشكلة بين حماس ومصر، وهناك عملٌ كثيرٌ للخروج منها. بيد أن هناك الواقع المفزع في القضيتين الطارئتين: إصرار «القاعدة» و«داعش» على أنّ من حقهم القتل في ديارنا وفي العالم، لزعزعة الاستقرار، وأخيرًا لإقامة الدولة الإسلامية، كأنما دوُلنا دولٌ بوذيةٌ أو يهودية (!). ثم جاء الإيرانيون فأنشأوا تنظيمات مسلَّحة انتشرت أيضا في البلدان، وتنافست (ولم تتصارع) مع أصولياتنا على التخريب والقتل وشرذمة المجتمعات والدول في لبنان والعراق وسوريا واليمن. وهذا فضلاً عن نشر الفتن والخلايا النائمة وأوهام تغيير الدين والمذهب وتكفير الناس، وحُجج حماية مقامات ومزارات آل البيت، بما يكاد يفوق في ضرره ما يقوم به الداعشيون وأشباههم. وهكذا ففي الوقت الذي لم تَعُدْ فيه الحربُ الشاملة واردةً في الأمد المنظور مع إسرائيل بعد خروج مصر والأردن من حالة الحرب مع الدولة العبرية، هناك المقاومة المستمرة في غزة، وهناك العمل السياسي الفلسطيني الذي يحظى بتأييد متزايد في العالم. إنما وعلى الرغم من ذلك كلّه فإنّ أخطار الاستيطان تزداد، والأخطار على القدس والمسجد الأقصى تزداد أيضًا. وما استطاع المجتمع الدولي إنفاذ أي من قراراته ضد الاستيطان، ولا باتجاه حلّ الدولتين. أما الهجمتان الثانية والثالثة، فإنهما تطلبتا وتتطلبان قتالاً حقيقيًا لحماية الدول والمجتمعات في مصر وليبيا والعراق وسوريا واليمن ولبنان. ويزداد الأمر تعقيدًا في ثلاث مسائل متصلة بهذا المخاض. الأولى، أنّ حكومتي بلدين عربيين كبيرين هما سوريا والعراق تعملان مع إيران أو عندها ضد شعبيهما. والمسألة الثانية، أنّ الشعوب في سائر البلدان المذكورة تحتاج إلى حماية من أهوال إيران و«داعش»، أو تزداد تصرفات الحيرة واليأس، مثل الهجرة إلى مخيمات البؤس، أو إلى الموت في البحار، أو الانضمام للتطرف. والمسألة الثالثة: من هي الدول أو الجهات التي تستطيع التصدي للظاهرة أو الظاهرتين في البلدان المذكورة؟! لقد قلنا إنّ بين البلدان المضطربة والمضروبة بلدين اثنين تعمل حكومتاهما ضد شعبيهما وعند إيران. وبذلك فقد صارت لـ«داعش» وظيفة بل وظائف بحجة حماية الناس من ميليشيات النظامين، ومن فتكهما، ومن التدخلات الإيرانية. والطريف والعجيب أنّ إيران تريد «منافسة» «داعش» على هذه الوظيفة المشرِّفة، وظيفة قتل الناس باسم الدين والمذهب. إذ قال الإيرانيون وقالت ميليشياتهم وتقول كل يوم: سنظل نقاتل ضد التكفيريين والإرهابيين! والذي فعلوه حتى الآن بالعراق أنهم ينتظرون ويتحشدون إلى أن تخرج الطائرات الأميركية «داعش» من هذه البلدة أو تلك، ثم يدخلون فيقتلون الناس، وينهبون بيوتهم أو يدمِّرونها. أما في سوريا فإنّ ميليشيات حزب الله والأفغان والعراقيين انصرفت وتنصرف لتهجير الناس وقتلهم لمساعدة الرئيس بشار الأسد على البقاء بحجة تبعيته لمحور المقاومة الذي تقوده إيران! والوضع باليمن أوشك أن يكون أسوأ، لو سمحت دول الخليج للحوثيين بالسيطرة، إذ سيصبحون مثل حكومة بشار الأسد والحكومة العراقية، في الإقبال على قتل الآخرين بحجة أنهم إرهابيون وأنهم تكفيريون، بل إنّ أحدهم قال لي: إنّ من حقنا قتلهم لأنهم حشوية! وقلت له: لكنّ هؤلاء هم أكثرية الشعب اليمني! وأجاب مسرعًا: «وما أكثر الناس ولو حرصتَ بمؤمنين»! لدينا إذن مصيبة سوريا والعراق، والتي تحتاج إلى حل بعد حصول الكارثة خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية. ولدينا ليبيا التي فيها حكومتان مسلحتان، وزيادة لقوة «داعش». ولدينا لبنان الذي تتفكك مؤسساته ويسودها حزب الله، ولدينا اليمن التي يصر الخليجيون على حماية شعبها وسيادتها. وهكذا فإنّ المشكلات كثيرة وكبيرة ومنتشرة. والعرب القادرون على العمل خارج حدودهم دولتان أو ثلاث. فإما أن نردّ الإيرانيين والداعشيين أو يصير عندنا أكثر من فلسطين. هل يمكن أن يكون الوعي في مكان وأن يكون العمل في مكانٍ آخر؟ لقد حصل هذا الفصام منذ عدة عقود بين الوعي والعمل، حين حصل أمران: احتلال إسرائيل لأراض عربية خارج فلسطين، بحيث صار على العرب تحرير أراضيهم هم، وبدلا من تحرير فلسطين. والأمر الثاني، اتجاه عددٍ من الحكام العرب لاستغلال القضية الفلسطينية في المزايدة، أو في العمل مع الولايات المتحدة. وبذلك فقد صار الوعي قسرًا أو اختيارا في مكانٍ، والعمل في مكانٍ آخر. أما الوضع الحالي فهو وضع ضرورةٍ ووعْي معًا. فالخطر الإسرائيلي قائمٌ وموجود. بل ويمكن لنتنياهو أن يشنّ حربًا الآن باتجاه لبنان إزعاجًا لأوباما واتفاقياته مع إيران. لكنّ القائم بالفعل، والذي يفترس الدول والمجتمعات، هو الخطر الداعشي، والخطر الإيراني. ومرةً أخرى: إذا لم نستطع أن نردَّ داعشًا والإيرانيين، فستكون لدينا أكثر من فلسطين. فيا للعرب!

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه