2021-07-26 

نيرفانا: الذات حين تجافي الأمكنة وتسكن تجاويف الحكاية

هزاع البراري

كيف تتحول الحافة الممتدة كشَعرة هشة إلى حياة مكتملة الانكسارات؟ كيف تصبح اللغة بديلا للأمكنة غير الأليفة رغم التصاقنا بها، وربما معادل للوطن؟ أين تهاجر بنا أروحنا إذا ما تشققت تحت أقدامنا الطرق؟ هي الكتابة بوابة أخرى للصمت، وهي النيرفانا التي تسرقنا من تلك الرواسب المتراكمة على مسامات تفاصيلنا الصغيرة، والمتكلسة فوق أفق النظر الداخلي والخارجي، هنا هند خليفات في تجربتها الجديدة في السرد، هي لاشك مغامرة محسوبة المخاطر لدى مبدعة تجيد تطويع اللغة بشكل يجعل من الحرف لونا ومن الجملة لوحة، ومن المجازفة إبداع بنكهة خاصة.

 

 

هند خليفات العابرة للأجناس الإبداعية، تجول بين اللوحة وصناعة الأفلام، وتسبقهما بتجربة لافتة في الكتابة الساخرة التي تأخذها إلى حواف القصة القصيرة، لتغادر علم الأحياء إلى كيمياء الإعلام وفتنة الإعلام الجديد المكتنز بالألغام، في حالة متواصلة مسكونة بتغيير المسارات، وكأنها توطن نفسها أبدا على حالة كسر التوقع لا في تخصصها الأكاديمي والعملي وحسب، وإنما النظر إلى أن الإبداع أنا كان حقله هو في جوهره حالة واحدة ويفور من النبع ذاته، لذا هي الحرية الحقيقية، وتوق إلى بناء عالم مواز لا نتخيله وحسب وإنما نعيش فيه، هكذا هي هند خليفات مع الكتابة والرسم والإخراج وحتى في الإعلام وحكايات أخرى ربما.

 

 

في نيرفانا تتجلى اللغة باعتبارها بطلا يتمطى بكل زهو، واللغة غواية ومدعاة للافتتان إن لم يبرع الكاتب في بناء السدود للسيطرة على الفيضانات وتوليد الطاقة الكافية لبناء الشخصيات وتطوير الحدث، وتشييد المعمار الروائي الذي من شأنه أن يقل العمل من المتن الحكائي إلى العمل الروائي مكتمل الأركان، فاللغة ليست محايدة وليست ثوباً جميلاً فقط، وهنا تقف هند خليفات للحظة تأمل مستحبة، ولا بد من الإشارة إلى أن هند برعت بتطعيم لغتها بمفردات وتركيب وافدة من لغة العلوم والاقتصاد، مثل الصدوع والانكسارات التي تصيب الروح بالعطب، أو عبارة اخضاع الحب لدراسة جدوى، وغيرها الكثير مما أضفى جمالاً وحيوية خاصة على نيرفانا.

 

 

ربما أرى أن هند خليفات في نيرفانا كانت أقرب إلى النوفيلا أو الرواية القصيرة منها إلى الرواية بما هو راسخ بالذهن العربي، فالنوفيلا أكثر رواجاً في الغرب منها في بلداننا، وبالتالي بقيت روح القصة القصيرة متلبسة في مقاطع هذه الرواية، وهذا وإن أخذها لبنية القصة أكثر إلا أنه منح العمل رشاقة وإيقاعا يلائم نزق هذا العصر نفاد صبره، ولكنه في الوقت نفسه جعل من العمل مكابدة ذاتية، أي أن الذات المفردة أو ذات الفرد الواحد، ونتيجة لإفرازات العصر وطغيان وسائل التواصل الاجتماعية التي أسهمت في جعل الأفراد جزر معزولة، وفاقمت الجائحة مثلا في تعميق هذه العزلة، دفعت الذات المفردة إلى التضخم لتصبح ذاتاً جمعية، وكأنها خلاصة لحراك مجتمعي كبير، فنيرفانا هي رواية الذات الفرد إلى المجتمع الذات.

 

 

في نيرفانا تنزع البطلة عنها طفولة وشباب وتجاعيد المكان، إنها تهرب منه ومن ذاكرته وسطوته بشكل واضح، تحبه وتعلن انتماؤها له، كلنها بوعي منها أو دون وعي تتبرأ منه تتجرد من ملامحه الطبغرافية والتاريخية، من فالمكان في غياب كامل أو شبه كامل، البتراء مجرد اسم للدلالة على موقع جغرافي مع إشارات خجولة إلى الانباط، فالطفولة ضبابية غيرة واضحة والكتابة عنها مجرد لماحات عابرة وعجولة، رغم أن الرواية بشكل عام تحتفي بالمكان واشتباك الشخوص فيه معه، وبيروت تلك المدينة المكتنزة في ذاكرتها وحاضرها وتعقد علاقاتها وجمالها وتفردها، اختزلت بمقهى في فندق أو شقه صغيرة في الأشرفية، والهند بكل غرائبيتها لم تتجاوز العنوان، وهو تغييب تفرضه هتان لتعلن تمردها الخفي على ما يفرضه المكان من اشتراطاته وقيوده حميميته التي قد تكون قيدا إضافيا هي في حل منه، هو تمرد خفي لو تجلى أكثر في المعالجة الروائية لمنح الرواية بعدا مكانيا نفسيا جديدا.

 

 

نجد أن نيرفانا هند خليفات تمزج بين اشاحة وجهها عن المكان بالقفز عن الأم، فالأم وهي أيضاً مكان ووطن متنقل، غابت كما المكان، وحين تشير إليها الكاتبة يكون ذلك بحياد غريب، ربما لأن الأم نقطة ضعف كحنين وانتماء، نهرب منها بأشكال مختلفة، وما يلفت الانتباه هو حضور الجدة وليس الأم، الجدة شكرية بديلة الأم، وهو بديل غير مكتمل، وميري جدة ميشيل، هي جدة ميشيل وليست أمه، لماذا حضرت الجدة لدى ميشيل ولم تكن الأم؟؟ مما تهرب البطلة بهذا الشكل ولماذا؟ هل هو هروب معلوم أم اسقاط خفي حتى عليها؟.

 

 

نجد أن نيرفانا هند تحتفي بالنقصان، كل الأشياء ناقصة يعوزها الاكتمال، المكان الناقص وغير المستقر، الزمن المغبر وغير الواضح، الأم التي ذابت قبل تفتح الذاكرة، العمل المضطرب، الحب البتور مثل شجرة تكالب عليها الحطابون، والهوية الهلامية ما بين السويد وكهوف البترا، بين الشاي على نار الحطب وقهوة نيرفانا في فندق خمس نجوم، وتفاصيل حياة ينهشها الاقتضاب. أن هند خليفات في هذا العمل تتقاطع مع ملامح سيرة ذاتية من منحدرات وادي موسى وأعالي برج الحوت، إلى تخصص الإعلام والعمل الصحفي، مما يجعل من هذه الرواية مرآة بشكل أو بآخر لبعض تفاصيلها، إنها رواية التشظي الذي يشكل تفاصلينا، ويقضم أحلامنا وأيامنا بنهم كبير، وتركنا رغم النهاية المتفائلة أمام السؤال الجارح، إلى أين نحن سائرون.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه