2020-06-12 

قدوتي وملهمي

حنان الحمد

@hananalhamad73

 

كان المتحدث شاباً وسيماً في آخر الثلاثين من عمره، وكان بين كل فقرة وأخرى – أثناء حديثه في ندوة عن (الاستدامة)- يحشر كلمات الغزل والفضل والتبجيل والمديح لمُلهمه وقدوته ومرشده، خُيل إلي أن ذلك القدوة ملاك نزل من السماء السابعة حتى ما إن ذكر اسمه توقف الخيال واستحضرت ذاكرتي صورة قدوته ومُلهمه ومُعلمه وهو ينحني مقبلا يد أحد مجرمي زعماء الإخوان في الخليج العربي، أُصبت بالذهول والخيبة، كيف لشاب متعلم وناجح أن يستسلم فكريا وينهزم نفسيا لمن هو أدنى بحجة (المُلهم والقدوة).

 

لايمكن إنكار أهمية القدوة في نشأة الإنسان وتَعلمه كيف يطور ذاته وأدواته في رحلته في هذه الحياة، ولعل الدائرة القريبة من الإنسان تعتبر أُولى مصادر القدوة والإلهام وهذا طبيعي، أما الدائرة الأكبر في المجتمعات المسلمة فإن القدوة المُوجِهَة للأفراد والمجتمع هو الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة"، وفي خضم الحياة وصراعاتها قد يحتاج البعض لمن يوحي له بفكرة أو طريقة ليواصل بها مسيره ويصبح الإنسان الذي يطمح أن يكون عليه وليس انعكاس لغيره.

 

إذاً القدوة والمُلهم هما من الوسائل التي يستعين بهما أو بأحدهما الإنسان ليبني منهجه الفكري وتتشكل شخصيته وتساعده أن يحدد اختياراته وفق تفكير وتخطيط يفترض فيهما المنطقية والتحليل وتقدير الأفضل له هو وليس بناء على ما كان أفضل لقدوته أو بناء على ما فعله مُلهمه، فالاستعانة بالقدوة أو المُلهم لغرض توليد الأفكار أو استدعاء الدافعية وليس الذوبان فيها وتقمصها.

مع مرور الزمن وبفعل فاعل تحول مفهوم القدوة والمُلهم في هذا الزمن إلى مهنة يسترزق منها البعض ويستغلها البعض الآخر لأغراض سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وغيرها، لقد تحولت هذه الوسيلة إلى غاية أوردت البعض المهالك، حيث تم تعزيزها تعليمياً وإعلامياً لتحقيق أهداف مختلفة والأمثلة كثيرة.

 

تعليميا كانت تدرس قصص الصحابة رضوان الله عليهم مقدمة على حياة الرسول صلى الله عليه وسلم - بل وألف فيها بعض كُتَاب الإخوان - مثل الدكتور عبدالرحمن رأفت باشا رحمه الله- كتبا دُرست كمناهج  في زمن سطوتهم على التعليم، كان الهدف كما قيل آنذاك أنها للاقتداء بقصص الصحابة رضوان الله عليهم والتأسيس للأدب الإسلامي، فكان التركيز على جانب الجهاد دون الجوانب الأخرى في كثير من القصص تحفز الطالب أو الطالبة ليتمنى أن يعيش زمن الجهاد والحروب، ولا أخفي سرا أنني سمعت هذا من إحداهن في سن السادسة عشرة حتى  تنال الشهادة لتدخل الجنة بأسرع الطرق، لقد تحول تأثير القدوة من وسيلة لتطوير الشخصية وسلامة تشكيلها إلى سلبها وتحويل القدوة إلى غاية بحد ذاتها وهذا ما حدث بالفعل مع من اُبتلي بالإنحراف الفكري وانضم للجماعات التكفيرية التي أغفلت في اقتدائها في الصحابة جوانب بناء وتكوين الشخصية وركزت على المعارك والدم فأصبح الهدف العودة بالمجتمع لزمن النبوة على حد زعمهم ليعيشوا كما عاش قدواتهم، ولايمكن أن ينكر عاقل فضل الصحابة من المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم في نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم ونشر الإسلام ولكن تم توظيف هذا بطريقة ألحقت الضرر بصورة الإسلام والمسلمين تحت ذريعة القدوة. 

 

أما الإعلام فلا تقل أخطاؤه فداحة عن التعليم في هذا الشأن، حيث مجموعة أشخاص يظهرون من اللامكان على شاشة التلفاز ويُمنحون الوقت والمال ليكونوا نجوم برامج توعوية وإرشادية لتوجيه الشباب، أو برنامج يجوب العالم ليبرز نماذج إيجابية في جميع أنحاء العالم عدا وطن مقدم البرنامج - الذي تحول إلى مُلهم لا يشق له غبار يقدسه الملايين ويُسبحون بحمده - وبدلا من أن يكون مصدر إلهام للأفكار ويحفزهم ليكونوا أكثر فخرا بمنجزاتهم وطموحاتهم تحولوا إلى جند له.

 

ومع وسائل التواصل الاجتماعي، ظهر المُؤثر -وهو ليس ببعيد عن القدوة والمُلهم، وتعرف الثقافة الأجنبية المؤثرين بأنهم الأشخاص الذين اكتسبوا سمعة لمعرفتهم وخبرتهم في موضوع معين وينشرون مشاركات منتظمة حول هذا الموضوع على قنوات التواصل الاجتماعي المفضلة لديهم ويكتسبون متابعين كثر من المتحمسين والمتفاعلين الذين يولون اهتمامًا وثيقًا لآرائهم وتفضل العلامات التجارية المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي لأنها تستطيع إنشاء اتجاهات من خلالهم ليشجعوا متابعيهم على شراء المنتجات التي يروجون لها.

 

 واذا نظرنا إلى أثر معظمهم وفق المفهوم أعلاه، نجد أن المؤثر أصبح وسيلة لخلق أفراد يحملون فكر سطحي تافه ومادي جشع بدلا من أن يكون وسيلة لتطوير الأشخاص ومساعدتهم على التعلم واستلهام الأفكار المبدعة، حتى أصبحت القدوة والملهم والمؤثر كلمات مرتبطة بالسيطرة على الفكر وتوجيه الأفراد وتكوين جماعات، وتحول الملهم إلى معبود الجماهير الذي لا يخطئ، وارتبط المؤثر بالقطعان البشرية التي تتبعه وقد سلمته التفكير والقرار بالنيابة عنها.

 

إلى أين وصل الحال في المجتمعات بسبب إساءة استخدام وسائل محفزة مثل"القدوة – المُلهم – المؤثر"، فبدلا من أن تحرك دافعية الإنسان السوي نحو الإبداع وتكوين فكر مستقل تحولت إلى وسائل للضغط السياسي والاجتماعي والاقتصادي فيها، إن الاِتباع الأعمى لهؤلاء جعل جماهيرهم يدفعون ثمن اختياراتهم التي كلفت البعض منهم حياته أو مستقبله الوظيفي أو الأسري أو الاقتصادي، وهذه نتيجة طبيعية عندما يُساء استخدام الوسيلة فالغاية لا تتحقق أبدا.

 

أبناؤنا و الأجيال الشابة حقهم علينا أن نوجههم ليكونوا قدوة أنفسهم أولاً وأن يبحثوا في دواخلهم عن الدافعية والإبداع والتحفيز والإنجاز ولا ضير من التعلم بالمحاولة والخطأ ولا عيب من طلب المساعدة والمشورة ولا تثريب إن استفادوا من تجارب الغير دون تقمصها، إن الإنسان الضعيف الذي لايتحمل مسؤولية اختياراته هو من يحاول أن يختبيء خلف من يسميه قدوة أو مُلهم ليلقي عليه نتيجة خطئه أو إخفاقه، كلنا خطاؤون وليس هناك إنسان كامل سوى المعصومين من الأنبياء والرسل، فلا تَدعي صدمتك بالمؤثر سين ولا القدوة صاد ولا تبحث عن الكمال في البشر ولا في نفسك، كن أنت واجعل من القيم الإسلامية والقيم الإنسانية الخيرة محركا لك، يكفيك كإنسان مسلم أن تكون قدوتك النبي محمد صلى الله عليه وسلم كما أمر الله تعالى ومن ثم كن أنت قدوة نفسك.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه