2018-09-01 

ماذا يحدث .. في #سجون رئاسة #أمن_الدولة ؟!

حليمة مظفر

لدقائق تأملتُ هيبة الطريق إلى سجن المباحث العامة بذهبان شمال جدة، الخاص بالموقوفين في قضايا الإرهاب والأمن الوطني، وأحد السجون الخمسة التي منها سجن الحاير الشهير بالرياض والتابعة لرئاسة أمن الدولة؛ المؤسسة الأمنية والاستخباراتية السيادية في المملكة العربية السعودية التي صدر قرارا إنشائها عام 2017م؛ ليُدرك السعوديون معنى المصطلح الجديد، بعد أن كانوا يعرفونه كاسم يتردد في أفلام السينما.

 

اقتربتُ من الموقع؛ واستشعرتُ الثواني التي تفصل بيني وبين مكان نسمع عنه ولا نعرف شيئا منه، ويخشى ذكر اسمه جُلّ الناس، فاسم (سجون رئاسة أمن الدولة) أسمٌ مربكٌ له رهبته؛ ويكفي أن نزلائه ممن مسّ أمن الوطن بجريمة نكراء؛ إنه مكان دائما ما يناله الاشاعات المُلفقة ربما نتيجة تأثير السينما العربية وتصويرها التعذيب في هذه السجون بجانب ما نقرأه في الصحافة عن سجون الدول الدكتاتورية، وحتى من تُعلن قيم حقوق الإنسان تلوثت بذلك، كمعتقل غوانتنامو والحكايات البشعة التي عرفناها لما تعرض له المعتقلون في قضايا الإرهاب

 

مَن أخطر مِن الإرهابيين !؟

 

في الساعة الثامنة مساء اقتربت سيارتي وبدأتُ أرى أضواء الحواجز الأمنية المنتشرة بدقة عبر مسافات متفاوتة مع تواجد أمني وحراسة مشددة؛ وتساءلتُ: ماذا تفعلين هنا..؟

 

هل تسرعتُ في قبول دعوة رئاسة أمن الدولة بزيارة سجن المباحث العامة للتعرف على معرض أحد برامجها الذي تنفذه داخل سجونها الخمسة ممن قبض عليهم في قضايا أمنية؟ وهل هناك أخطر من الإرهابيين..!؟

وللحظة تذكرتُ تجربة سابقة لي حين كنتُ أعمل صحفية بجريدة الشرق الأوسط الدولية، وكنتُ قررتُ عمل تحقيق عن سجينات سجن النساء العام ومُنهن محكومات بالقصاص في جرائم قتل ومخدرات؛ لكن هؤلاء ممن سألتقي بهم خلال هذه الفعالية هُم ممن قبض وحُكم عليهم في قضايا الإرهاب !! إنهم ممن فكروا أن دخول الجنة والتقرب إلى الله يكون عن طريق هدر دماءنا فقط !! ممن يُشعروننا بالغضب كلما سمعنا في نشرة الأخبار عن محاولة إرهابية تهدد الآمنين، وأخرى يستشهد فيها رجال أمننا الأبطال، وجالت في نفسي الخواطر، حتى توقفت أمام الحاجز الأمني؛ وإذ بأحد العسكريين وآخر بزي مدني يستوقفوني: فعرفتُ باسمي؛ ومع ابتسامة مرحبة قال أحدهما (حياكِ الله)، ووصف لي أي طريق أسلك؛ ثم استقبلني آخر، وقبل أن أترجل من سيارتي أخبرني:(الهاتف ممنوع) تركته مع سائقي ومشيتُ معه.

 

عسكريات برئاسة أمن الدولة

 

عند البوابة المخصصة للنساء استقبلتني موظفتان في رئاسة أمن الدولة بزيهن العسكري أشعرني بالفخر رُؤيتهما به، ومع ابتسامة ودودة منهما تم تفتيشي ومطابقة هويتي؛ ثم انتظرتُ دقائق وصول سيارة تقلني من داخل السجن توقفت بي في ساحة متسعة أمام تجمع مُضاء ومُجهز داخل السجن لاحتفال نظمته رئاسة أمن الدولة للموقوفين أو النزلاء كما يحرصون على تسميتهم، احتفاء بإنجازاتهم في معرض فني أنيق.

 

وعلى سجادة حمراء استقبلوا منسوبي رئاسة أمن الدولة عددا من زملائي الكتاب والإعلاميين ممن تمت دعوتهم إلى مهرجان أجنحة إدارة الوقت؛ مشيتُ إلى خيمة المعرض؛ وفيها ينتشر رجال بزيهم المدني وآخرون بزيهم العسكري؛ وبدأت جولتي باستقبال أحدهم لي، كان بلحية مُخففة مرحبا بابتسامة ودودة :

(أهلا وسهلا .. اسمحي لي أعرفك بهذا الجناح في المعرض). 

وأخذ يتحدث بحماس عن الأعمال الفنية التشكيلية التي نفذها زملاؤه، ومنها لوحات لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ وأخرى لولي عهده الأمير المُلهم محمد بن سلمان ـ وفقه الله ـ، ولم يخطر ببالي أن من يحدثني هو أحد المدانين في قضية إرهابية حتى قال لي: معك فلان أحد الموقفين من سجن الحاير .

 

بصدق، توقعتُ أن من يتحدث معي أحد منسوبي المباحث ممن يشرفون على السجناء، وبنظرة سريعة لمن حولي لم أتردد في سؤاله عن الأشخاص الذين يرتدون مثله بنطالا وتي شيرت رياضيا أنيقا وينتشرون في الخيمة: هل هؤلاء زملاءك من السجناء؟! فأجاب : نعم أستاذة .. نحن نفذنا هذا المعرض الذي يحتوي أعمالنا بدعم من منسوبي المباحث العامة الله يعطيهم العافية.

 

آلة العود الموسيقية ومسبحة من زيتون

 

وأدهشني المعرض الذي يُشرف عليه الموقوفون بأنفسهم تحت متابعة أمنية دقيقة من رجال المباحث المتواجدين في كل الزوايا، فكل الأعمال نفذوها ضمن برنامج إدارة الوقت لاستثمار هواياتهم وتأهيلهم نفسيا ومعرفيا وسلوكيا وفكريا.

أمّا الأعمال فعبارة عن لوحات تشكيلية تتسم بالفنية، بعضها عن مضامين ورموز وطنية، وأخرى سريالية؛ فيما بعضها يتناول المرأة السعودية وقضاياها؛ بجانبها تجد مشغولات يدوية بمكونات من القهوة والدقيق والورق وأخرى مصنوعات خشبية بتصاميم أنيقة للمنزل؛ ولفت انتباهي عدد من آلات العزف المعروفة (العود ) التي صنعها بعض الموقفين أيضا بأيديهم؛ وحدثني عنها (عبدالله) أحد  السجناء بأنهم يقومون بتصنيعها في ورشات نجارة وفرتها لهم المباحث العامة في السجن؛ فيما أذهلتني مسبحة جميلة ضمن مجموعة يصنعها ( إبراهيم ) بشغف من حبات الزيتون الأسود المُجفف، تبدو أنيقة واحترافية.

 

إنك تتأمل محتويات المعرض وإلا ما تُشعرك بالحياة وثقافة الجمال؛ ولن تتوقع أن أصحابها من سجناء قضايا الإرهاب ممن تشبعوا بثقافة الموت، ربما بعضهم كان فخخ السيارات أو فكر بتقديم نفسه وجبة بحزام ناسف في عملية انتحارية!

 

امرأة تقود السيارة ..

 

خلال تجولي في المعرض وقفت بجوار (عبدالحكيم) بلحية خفيفة من سجناء (الحاير) يرتدي بالطو أبيض، ويرسم لوحة لامرأة سعودية منعكسة صورتها من مرآة السيارة الجانبية التي تقودها؛ تبدو حيوية وقد أبرز خُصلات شعرها من حجابها؛ فكرة جميلة أعجبتني والألوان معبرة عن نفسية راسمها الذي لاحظني واقفة خلفه، فالتفت وأخذ يشرح لي فكرتها قائلا:

اللوحة أرسمها تأكيدا على حق المرأة في قيادة السيارة، وتفاعلا مع القرار الملكي الحكيم بالسماح لها بذلك؛ ثم حرك نظارته قليلا وقال: هل يمكنني أن أسألك إن لم يكن السؤال يحرجك ؟!

 

أجبتُه: أبدا .. تفضل

قال : ملامحك تذكرني بالكاتبة حليمة مظفر .. ؟!

ابتسمت صامتة فيما يُكمل : أنت تشبهينها كثيرا .

أجبتُ بابتسامة : نعم .. هي أمامك.

 

وقف من كرسيه؛ متحدثا معي باحترام وبفرح؛ يقول: لا أصدق أنكِ هنا .. مقالاتكِ أثرت بي وغيرتني كثيرا؛ وأنا من أشد المعجبين بكِ، فعلا لم أتوقع أن أراكِ، فقلتُ له: أتمنى أن المقالات غيرتك للأحسن؛ قال: بالتأكيد لأنها أقنعتني .

ثم عرض عليّ أن اقبل هديته وهي لوحة من لوحاته التي جسدت تغييرا كبيرا في أفكاره؛ إنه يحاول أن يعبر بتأكيد تراجعه عن أفكاره القديمة؛ ثم أخبر أحد المشرفين من منسوبي المباحث العامة أن يقدموها لي قبل مغادرتي؛ شكرتُه جدا وشعرتُ بالسعادة لتحوله وتصحيح فكره .

 

 

اللوحة وذكرى حريق الجوف

 

نظرتُ للوحة التي أهادني عبد الحكيم؛ ولا أعرف كيف أخذتني الثواني إلى ذكرى أليمة عشتُها في يناير عام 2009؛ المعروفة بحادثة حريق نادي الجوف الأدبي؛ حيث أُحرق النادي منعا لاستضافتي ونفذ الحريق متطرفون، سبقتها تهديداتهم بالقتل لرئيس النادي ولشخصي؛ ثم تكررت ذات التهديدات حين قبلتُ الدعوة للمرة الثانية لأن مبدئي كان واضحا؛ بعدم الرضوخ نهائيا لأي تخويف إرهابي ولا لتهديدات المتطرفين وإن كان الثمن حياتي؛ وقبلت الدعوة وكانت الزيارة والمشاركة في أمسية ثقافية بالجوف تحت حراسة أمنية مشددة؛ كل ذلك نتيجة ما تم حشوه في أدمغة المتطرفين من إشاعات التحريض وتهم التكفير والتفسيق ضد الكتاب والإعلاميين وكنتُ منهم بسبب ما كتبته من مقالات لسنوات ومنذ 2006 للمحاربة التطرف ولتعزيز قيم التعايش وحقوق المرأة والفنون!! فقد غُسلت أدمغتهم بقيم مشوهة عن الدين والتدين.

 

وأكملت التجول فإذا بـ ( عادل ) أربعيني بلحية كثة بعض الشيء يستقبلني في الجناح الثالث بابتسامة متفائلة؛ أخذ يشرح لي اللوحات السريالية والأفكار التي تضمنتها بزهو، وبعد الحوار معه حول الأعمال قال: أنتِ حليمة مظفر ...؟!

 ابتسمتُ ، أجبتُه : نعم هي، 

فقال باستغراب: معقول أنتِ حليمة ..؟ 

قلت: ولماذا الاستغراب؟

 

قال: كنتً أتوقعك في صورة مختلفة تماما تصورناها عنك مُسبقا منذ سنوات .. فمقالاتك شرسة وقوية وصريحة ولم أتوقع أنك بهذه البساطة واللطف.

 

يبدو يا أخي (عادل ) أنكم ظلمتوني كثيرا في السابق، فأجاب، ظلمناكِ فعلا.. وأكمل : قرأتُ معظم ما تكتبينه منذ سنوات ؟ وأتفق مع بعض ما طرحتِه من أفكار، واختلف مع بعضها لكني احترمك جدا، لأن لديك رؤية واضحة للحياة، ومقالاتك أثرت بي بشكل إيجابي؛ فشكرا لكِ.

 

شكرتُه وتمنيت له التوفيق .

 

فيصل .. سجين فرح مُكتنز بالإيجابية

 

حين بتُ على وشك الخروج دعاني شاب عشريني مبتسم ومتحمس يُدعى (فيصل)، حليق اللحية تماما؛ ملامحه الدقيقة تنبع منها الطاقة الإيجابية المكتنزة بالفرح لما يقمون به من نشاط؛ ناداني قائلا

أستاذة تبقى لك شيء قبل خروجك ؟ 

قلتُ : ماذا ؟!

 

فقال: رأيك وتوقيعك على اللوحة الجدارية للمعرض في أعمالنا؛ كيف تخرج أستاذ حليمة دون أن تكتب لنا شيئا ؟! ابتسمتُ وقلت لنفسي يبدو أن جميع النزلاء هنا يعرفونني، وسألتُه: كم تبقت لك من محكوميتك ؟  أجاب: سنتان وإن شاء الله يفرج عني؛ دعوتُ له بالتوفيق ثم كتبتُ على الجدارية :(سعدتُ بزيارتي وشعرتُ بالفخر والاعتزاز لما رأيته من تغيير فكري وجهود رائعة بإشراف المباحث العامة). 

 

مسرحية غنائية نفذها الموقوفون

 

بعدها توجهنا إلى مسرح الاحتفال الختامي لفعاليات مهرجان (إدارة الوقت) بحضور معالي الأستاذ عبد الله عبد الكريم العيسى مساعد رئيس جهاز أمن الدولة؛ وفي المسرح المنظم انتظرنا قليلا وإذ بالستار ينفتح؛ ليظهر عددا من السجناء يؤدون مسرحية غنائية (أوبريت) من تأليفهم وإخراجهم وأدائهم الغنائي مستخدمين تقنيات عرض مرئية، تحكي خلاصة تجربتهم وكيف تحولوا إلى محاربين للفكر التكفيري؛ وما أن انتهت حتى صفق لهم الحضور تصفيقا حارا إعجابا بما قدموه؛ وبالجهود الكبيرة التي يبذلها رجال المباحث العامة في سجون رئاسة أمن الدولة لتأهيل السجناء واستثمار طاقتهم والتعامل معهم من خلال تكوين بيئة صالحة قادرة على تأهيلهم مما يجعلهم أسوياء، وكل ذلك بتوجيهات معالي رئيس جهاز أمن الدولة ومدير عام المباحث العامة الفريق أول عبد العزيز الهويريني؛ هذا الرجل الذي تعرض لمحاولة اغتيال عام 2003 خلال عمله في المباحث العامة؛ حين أطلق على سيارته التي كان يستقلها مع شقيقه الرصاص الكثيف؛ فنجاه الله تعالى فيما توفي شقيقه رحمه الله .

 

تجربة مها من بُريدة

 

أمّا مها فكانت حكاية أخرى، إنها إحدى السجينات؛ عرفت نفسها أنها من بنات (بُريدة)؛ وقد استحقت تصفيقا قويا وطويلا بعد أن اعتلت منصة المسرح مُتحدثة بفصاحة وطلاقة عن تجربتها كنزيلة في سجن المباحث العامة، مُعبرة عن تغيرها وتحولها الفكري من امرأة حصرت نفسها داخل دائرة ضيقة ومجتمع صغير إلى ابنة السعودية بجميع مناطقها ودائرتها الأوسع بقيم التعايش والتسامح؛ مُتحدثة عن تجربتها التي توسعت معرفيا داخل السجن؛ فيما أدركت شغفها بالزراعة في مشتل السجن والذي ساعدها على اكتشاف ذاتها من جديد كما قالت .

 

سجنٌ أم قريّةٌ صغيرة !

 

وفي ختام الحفل لمهرجان إدارة الوقت؛ تم عرض فيلم قصير بعنوان (يوميات نزيل) بطله سجين في أحد سجون المباحث العامة؛ للتعريف ببرنامج إدارة الوقت مع السجناء أو النزلاء كما يدعونهم منسوبي المباحث؛ إنك ترى في هذه اليوميات قرية او مدينة مُصغرة داخل سجن المباحث العامة؛ ساحة للتشميس والتنزه ومشتل لزراعة الخضار والفواكه، ومنحل لانتاج العسل؛ وصالة رياضية كبيرة متنوعة الرياضات؛ وهناك مركز إعلامي مزود بأستديو للإنتاج الإذاعي والإخراج لمن لديهم هوايات إعلامية ومسرحية، كما توجد بقالة وورش للنجارة ومكتبة كتب، ومرسم فني، وفصول دراسية، وغيرها من الأماكن التي يمارس فيها النزلاء هواياتهم ويصقلون مهاراتهم، ويتبادلون مع زملائهم التجربة بما يساعد على تطويرهم، ويعيد تأهيلهم بتنظيم وقتهم واستثمار مواهبهم تحت إشراف المختصين في المباحث العامة؛ ومهما كان السجن فيه من سُبل يعين نزلائه عليه فترة محكومياتهم؛ لكن وكما قال بطل الفيلم : يبقى السجن سجنا ! .

 

وانتهى الحفل وهممتُ بالخروج من سجن المباحث العامة بذهبان من ذات الطريق؛ أحمل معي لوحة (عبد الحكيم ) التي أهداني هي؛ مع شعور بالسعادة لدعوة رئاسة أمن الدولة الكريمة التي عرفتني على جهود رائعة تُبذل داخل سجون المباحث العامة، تراعي إنسانية هؤلاء مهما كانت جرائمهم القبيحة وتُشعرنا بالغضب.

 

إنه احساس عميق بالفخر لانتمائي إلى وطن عظيم لما وجدتُه من تعامل إنساني أخلاقي وليس بغريب؛ فهو نابع من دين راسخ تؤكد عليه القيادة الرشيدة لسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ وولي عهده الأمين في بناء وطن بحضارة مُتمدنة عميقة في جذورها الإنسانية .

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه